أمام محي الدين توق !! على هامش حراك الجامعات الأردنية : صندوق البحث العلمي

الوقائع الاخبارية : بقلم أ. د. رشيد الجراح

بداية، لابد من الإشارة أن ما سيرد في هذه المقالة من أفكار لا تعبر إلا عن رأي كاتبها، وهي في الوقت ذاته ليست موجهة ضد أي شخص ولا يقصد منها انتقاد أي مؤسسة وطنية، لأنهالا تعدو أكثر من وجهة نظر ربما تكون خاطئة.

أما بعد،

تتسارع وتيرة الحراك في الجامعات الأردنية المطالبة بالإصلاحات في قطاع التعليم العالي، وتتعدد المطالب، وتكثر الاقتراحات وتتباين وجهات النظر لجميع الأطراف ذات العلاقة بالشأن الجامعي. لكن ربما يصعب المجادلة في أن الصبغة الطاغية على هذا الحراك (حتى وإن لم يقلها بملء الفم) هي الأصوات التي تنادي بتحسين الظروف المادية للأستاذ الجامعي الذي - لا شك عندنا- قد تراجعت قدراته الشرائية كثيرا في ظل الظروف الاقتصادية الحالية في البلد.لذا، قد يصعب على المراقب عن بعد أن يجزم أي الاصوات هي الأقرب للصواب والمنطق: تلك التي تطالب بمكتسباتها وحقوقها، أم تلك التي تتعذر بفقه الواقع والحال؟
وربما لا نختلف كثيرا (إن نحن نظرنا إلى الأمر بصورة موضوعية) أن نرى أن جلّ ما يقوم به كلا الطرفان هو السير قدما في الخط ذاته الذي ربما لا يختلف عاقلان أننا قد فقدنا بوصلته منذ أمد بعيد. فنحن جميعا نسير في الخط الذي نكاد نجمع أنه لن يؤدي بنا في نهاية المطاف إلى بر الأمان الذي ننشده، فلقد فقدنا (نحن نرى) البوصلة في عرض البحر منذ فترة، وما زالت السفينة تمضي قدما في أعالي البحار ولا ندري أن كنا مبحرين في الاتجاه الصحيح أم سنبقى تاهين في عرض البحر وطوله. ولعل السبب في ذلك – برأينا الذي ربما يكون خاطئا- هو أننا قد انحرفنا عن أهداف التعليم العالي برمته الذي غدا ليس أكثر من مهنة نتكسب العيش بها، فأصبح الكثيرون من الأساتذة الجامعيين مشغولين بجمع الثروة من هنا وهناك، ويكأد فكر هؤلاء قد أصبح أقرب إلى فكر المقاول والتاجر منه إلى فكر طالب العلم والمعرفة. ولعلي لا أكاد ابالغ إن قلت بأن دعوة على عشاء عمل من أجل صفقة تجارية بسيطة سيجتمع عليها أكثر من دعوة لمناقشة قضية فكرية أو ندوة علمية أو أدبية في أروقة جامعاتنا العتيدة. والحالة هذه، أصبح التفاوت واضحا بين الأساتذة الجامعين أنفسهم في مستوى المعيشة، فتجد أن قلة منهم يسكنون الفلل الجميلة،ويركبون السيارات الفارهة، في حين أن جاره في المكتب ما زال يصارع دفع أجار الشقة التي يسكن فيها أو تلك التي شراها عن طريق البنك بنظام التمويل بالتمليك طويل الأجل. ليكون السؤال الحتمي هنا هو: ما السبب؟
رأينا المفترى: نحن نظن جازمين بأن السبب في ذلك لا يسأل عنه شخص بعينه أو إدارة جامعية واحدة، وإنما تعزى – برأينا- إلى سياسة التعليم العالي برمتها التي نظن - ربما مخطئين- أنها قد ابتعدت كثيرا عن أبجديات التعليم العالي الذي أنشئت من أجله وزارات وهيئات مستقلة وجامعات ومعاهد علمية كثيرة في كل حواضر البلد من أقصاه إلى أقصاه. فكانت هذه السياسة (نحن نرى) هي السبب في سوء توزيع الثروة حتى بين أفراد المهنة الواحدة (كالأساتذة الجامعيين)، وبالتالي الابتعاد عن جوهر التعليم العالي برمته. وسأحاول أن اضرب مثالا على هذا، ألا وهو صندوق البحث العلمي في الجامعات الأردنية كلها.

فليس من الصعب أن نحسب بأن ما يقرب من خمسة بالمئة من ميزانية الجامعات الأردنية الرسمية ترصد لصندوق البحث العلمي الذي يعنى بدعم البحث العلمي في الجامعات الأردنية، لتكون المحصلة المالية لهذه الصناديق في كل الجامعات الأردنية تقرب من حاجز الخمسة عشر مليونا من الدنانير سنويا. ليكون السؤال الحتمي الذي يجب أن نتوقف عنده جميعا هو: ماذا كانت نتيجة هذه المبالغ المدفوعة على مدى سنين عددا؟ هل فعلا ساهمت هذه المبالغ المدفوعة إلى رفع سوية البحث العلمي في جامعاتنا؟ هل نحن راضين عن النتيجة التي وصلنا إليها في مجال البحث العلمي في جامعاتنا؟ من يدري؟!!
نحن نرى أن المتتبع لأخبار هذه الصناديق سيجد أن معظم موجودات هذه لصناديق تنفق على مشاريع أبحاث تنتهي معظمها (ولا أقول كلها) كملفات في أدراج مكاتب "هؤلاء الباحثين"، وقلما ينتج عنها أبحاث علمية رصينة منشورة في مجلات علمية مرموقة. ولعلي لا أبالغ إن افتريت القول من عند نفسي بأن "صناعة" هذه المشاريع قد غدت حرفة عند البعض من الأساتذة، فأصبحوا يتفننون في طريقة تقديم هذه المشاريع وسبل الحصول على التمويلات الهائلة لها، في حين ما زال الكثيرون منهم ينظرون من طرف خفي.

كما قد لا يفوتنا التذكير هنا بأن جزءا لا باس به من ميزانية هذه الصناديق تذهب لتمويل المؤتمرات العلمية الخارجية للباحثين، فأصبح الكثيرون يتبارون للسبق في الحصول على جزء من تلك الكعكة قبل نفاذها منذ اليوم الأول في حفل توزيعها، ولعلي لا أبالغ أيضا بأن المشاركة بهذه المؤتمرات قد أصبحت حرفة عند البعض من الأساتذة، فأصبحوا يتفننون في التقاط هذه المؤتمرات في كل أرجاء المعمورة. لكن ما يريب المراقب عن بعد هو أن هذه المؤتمرات غالبا ما تكون قريبة من مناطق سكن أبنائهم وأنسبائهم في بلاد الاغتراب. والذي لا يجد قريبا له هنا أو نسيبا له هناك، يسارع إلى البحث عن مؤتمرات تنعقدفيمنطقة سياحية معروفة في رحلة الشتاء والصيف. لكن يظل كثير من أعضاء الكادر الأكاديمي ينظر من طرف خفي،فلا يزاحم أقرانه على شيء من تلك الكعكة التي يوزعها سيد القوم بطريقته وفلسفته التي لا ريب فيها إلا عند المعارضين الذي يحسدونه على ما هو فيه مما أنعم ربه به عليه.

ويبقى نزر يسير مما تبقى من أموال ذلك الصندوق ليصرف بعشرات الدنانير أو المئات منها في أحسن الأحوال على ما تم نشره فعلا من بحث علمي في مجلات علمية عالمية مرموقة، يلتقطها هؤلاء الباحثون الحقيقيون كفتات، وهم من أنفقوا وقتهم وجهدهم في البحث أشهر وسنوات في مكتبه ومختبره وبين أوراقه ودفاتره القديمة الجديدة. لتكون النتيجة التي نراها (وربما لا نبصرها) هي أن الباحثين الحقيقين هم الذين لا تطالهم عطايا ذلك الصندوق المسمى بصندوق البحث العلمي، بينما تذهب معظم موجوداته "للشاطرين" الذين يتقنون فنون اللعبة.

ربما يظن القارئ لهذه السطور أني أدعو إلى اعطاء هؤلاء وحرمان أولئك، أوإعادة توزيع موجودات الصندوق بطريقة أكثر عدالة مما هو جاري في واقع الحال. فأرد بالقول: ربما يكون هذا مطلب لا بأس به، فالعدالة في التوزيع مطلب لا يجادل فيه كل ذي لب. لكن المطلب الحقيقي الذي نحاول تسويقه هنا هو العودة إلى الأهداف الحقيقة التي أنشئ من أجلها هذا الصندوق، ولا أقصد الأهداف المسطورة في ملفات عمادات البحث العلمي أو حتى وزارة التعليم العالي والهيئات المنبثقة عنها، وإنما العودة إلى جوهر التعليم العالي وفلسفته ذاتها. ليكون السؤال الآن هو: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن جازمين بأننا لم نصل بعد في بلدنا هذا (كما في كل دول العالم النامي) إلى مرحلة الانتاجية المبنية على نتائج البحث العلمي، فنحن لا نملك الصناعات والمعامل والشركات والمؤسسات التي تحتاج إلى البحث العلمي الجديد ليتقدم بها إلى الأمام. فنحن ما زلنا – لا شك في ذلك- مستوردين للآلة (وللتكنولوجيا المشغلة لها) المستخدمة في أبسط الصناعات الحرفية حتى التقليدية منها. فأين إذن (نحن نتساءل) سنصرف نتائج الأبحاث العلمية التي من المفترض أن نقوم بها؟ وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن ننكر أن لدينا الكفاءات التي تستطيع القيام بهذه الأبحاث، بل على العكس، فنحن نملك الكثير من هذه الكفاءات المؤهلة التي تستطيع القيام بالبحث العلمي الحقيقي، لكن لابد من الاعتراف أن نتائج أبحاثهم هذه تستفيد منها الصناعات والتكنولوجيا الموجودة خارج أسوار الجامعة. لذا، نحن نرى (ربما مخطئين) بأن من يريد أن يقوم بهذه الأبحاث الحقيقة سيجد من يموّلها من خارج الجامعة محليا وإقليميا وعالميا. فالباحث الذي يستطيع أن يقوم ببحث علمي حقيقي يتطلب دعما ماديا كبيرا يستطيع أن يحصل على التمويل اللازم له من خارج الجامعة إن هو استطاع أن يقنع المستفيد من بحثه بضرورة القيام به.

السؤال: وأين يجب أن تصرف أموال صناديق البحث العلمي في كافة الجامعات الرسمية الأردنية إن لم يكن في هذه المجالات؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأنه قد آن الأوان أن نعود مرة أخرى إلى بداية الطريق الذي ظللنا السير فيه لسنوات طويلة، لنبدأ من نقطة الانطلاق الأولى، ألا وهي انتاج الباحثين قبل التفكير في انتاج البحث العلمي ذاته. فلا يجب أن ننكر بأننا ما زلنا من دول العالم النامي الذي لا يملك الامكانات لتصريف نتائج هذه الابحاث العلمية عمليا على أرض الواقع، وبالتالي الاستفادة منها في السوق المحلي، ليكون لها انعكاسات مباشرة على البد برمته. لذا، يجب أن نعود (نحن نكرر القول) إلى الانفاق على انتاج الباحثين المميزين في جميع مجالات المعرفة، ولا يمكن أن يحدث هذا دون تبني سياسة ابتعاث الطلبة المميزين في كل حقول المعرفة من أبناء البلد إلى أرقى الجامعات العالمية، وبالتالي الاستثمار في انتاج الباحثين حتى نصل إلى أن نكون مجتمعا قادرا على استهلاك نتاج البحث العلمي محليا.

فتخيل معي عزيزي القارئ – إن شئت- لو رصدت كل مخصصات صناديق البحث العلمي في كل الجامعات الأردنية لغايات ابتعاث الطلبة في شتى ميادين المعرفة إلى أرقى الجامعات العالمية، فما الذي سيحصل حينها؟
أولا، سيكون الاستثمار في الانسان الأردني المتميز علميا الذي طالما تغنينا بقدراته أهازيج وزغاريد أمام الميكروفونات، وقلما ساندناه على أرض الواقع ليقف على قدميه.
ثانيا، اذكاء التنافس بين الشباب الجامعي الأردني الواعد، واعطائهم بريق أمل في أهمية التعليم في ضوء الصعوبات الاقتصادية التي يواجهونها في حياتهم المعيشية، فيصبح الميدان مفتوحا أمامهم للمنافسة الشريفة دون تدخلاتنا المبنية على المحسوبية، فنحن نطالبهم أن يكونوا على درجة من الرقي العلمي والفكري الذي ينافس الأمريكي والهندي والصيني والياباني والألماني، الخ. في المعاهد والجامعات العالمية ذائعة الصيت.

ثالثا، إلقاء الكرة في ملعب هؤلاء الشباب للاجتهاد في الحصول على القبول من أرقى الجامعات العالمية ليدخل المنافسة مع غيره بكل جدارة واستحقاق.، وألا يبقى الكثير منهم يعذرونأنفسهم بحجة أن الدولة الأردنية والمجتمع من حولهم قد ألقى بهم بين صريع وقتيل بعد أن استنزف تعليمه الجامعي كل قدراته المالية في الانفاق.
رابعا، نشر الكفاءات الأردنية المؤهلة في كل أصقاع المعمورة، فنحن لا نريد أن نصدر للعالم الآلة والتكنولوجيا، ولكننا نسعى إلى أن نصدر له علماء هم صناع الآلة والتكنولوجيا والفكر في كل مجالات المعرفية البشرية. فكم سيكون مفرحا لنا جميعا لوجدنا الأردني أستاذا جامعيا في الجامعات الأمريكية والكندية والأسترالية وحتى اليابانية والكورية والعربية من حولنا؟ وكم سيكون مفرحا لنا جميعا لو وجدنا الطبيب والمهندس الأردني متواجدا في أرقى المستشفيات وأكبر المصانع في كل أرجاء المعمورة؟ فليس لزاما (نحن نرى) أن نبتعث هؤلاء الطلبة ليدرسوا في الجامعات العالمية ثم يعودون استاذة جامعيين في أحد الجامعات الأردنية ذاتها، ولكننا ندرسهم ونؤهلهم ليجدوا لأنفسهم فرص عمل أفضل في كل بلاد الله الواسعة، ولا أدعو أحد منهم للعودة إلى البلد إلا إذا دعت الحاجة المحلية إليه، فهذا المبتعث يبقى ملتزما للبلد متى دعت الحاجة، لكنه يبقى حرا طليقا في كل أصقاع الأرض يبحث فيه عن علم وعمل، ويرفد بلده (الذي ما بخل عليه) بالعملة الصعبة التي لا شك سترفد اقتصاد البلد كله مع توالي الأيام والسنيين.

خامسا، تعزيز الانتماء لهذا البلد عند أبنائه، والشكر له، فكم كنا بحاجة يوم أن تخرجنا من الجامعات الأردنية في سابق الأيام إلى مثل هذا الدعم؟ ولعلي لا أتعدى على كثير من أصحاب القرار هنا لو سألتهم: ما الذي جعل الكثيرين منكم يجلس على كرسيه هذا الآن غير تلك البعثات في سالف الزمان؟ هل لو لم نحصل على تلك البعثات عندما تخرجنا قبل سنين عددا، هل كنا نستطيع أن نكمل دراستنا في أمريكيا وكندا وبريطانيا وألمانيا، الخ.؟ هل كان الكثير منّا يملك أن يدفع نفقات تعليمه حينئذ؟ ما بالنا إذا بعد أن مُنحنا هذه الفرصة نكاد نغلقها تماما في وجه الأجيال من بعدنا؟ ألم تهرم كثير من جامعاتنا وما عادت ترفد الكثير منها إلا بالنزر اليسير من الكفاءات الجديدة؟ ألم نعد نملي الفراغات في الجامعات بكثير من الكوادر التي نكاد نجمع أنها غير مؤهلة؟ من يدري؟!
وفي الختام، فإني أدعو الجميع إلى النظر إلى المنفعة التي تعود بالخير على الجميع بدلا من النظر إلى ما ينفعه وقد يضر غيره، فالمصلحة العليا العامة مقدّمة على المصلحة الخاصة، ولا أظن أنها تتعارض معها. فإيقاف سند القبض الخاص بي لبحث علمي وإنفاقه على من يحتاجهن الشباب الواعد يجلب الخير للجميع. فمن واجبي - كأستاذ جامعي - أن أشتغل بالبحث العلمي ونشره ولا داعي أن أكافئ على ذلك مادام أن غيري بحاجة ماسة إلى ذلك أكثر مني. فعندما يكون راتبي الشهري يكفيني لتسديد التزاماتي المعيشية، فلا بأس أن أتنازل عن بعض الكماليات، ليعيش بها غيري كأساسيات. فاتركوا – يرحمكم الله- شيئا من الكعكة لغيركم، فقد يكون غيركم يتضور جوعا في الوقت الذي تأكلون أنتم لتسمنون، ثم تدفعون ما ادخرثمنها على الأدوية التي تعالج تخمتكم. وبالنهاية زي ما بدكوا، انتوا حرين.