روبرت دي نيرو.. أسطورة هوليود وحارس الحلم الأميركي
الوقائع الاخبارية : حين أصيب الممثل الأميركي روبرت دي نيرو بكسر في قدمه الشهر الماضي، توقع الكثيرون أن يتخذ قرارا بالتقاعد بعد أن اقترب من الثمانين، لكن هذا النجم الذي لم يتوقف عن الركض في حلبة السباق السينمائي منذ 60 عاما، فاجأ الجميع بالشروع في فيلم جديد من إنتاجه، حيث يقدم العام المقبل جزءا ثانيا من فيلمه "مطاردة منتصف الليل" أو "Midnight Run" الصادر عام 1988.
وجسد دي نيرو في الجزء الأول دور صائد جوائز يتفوق على المباحث الفدرالية، ويصل إلى أحد رجال المافيا الهاربين من دفع كفالة إطلاق سراحه. وكان قد انتهى من تصوير فيلمه الجديد مع المخرج مارتن سكورسيزي "قتلة زهور القمر" أو"Killers of the Flower Moon" منذ شهور قليلة.
يصدق الأميركيون وعشاق السينما في العالم أن دي نيرو هو الأفضل، وأنه أسطورة حية تسير على قدمين، لكن دي نيرو نفسه الوحيد الذي لا يلتفت ولا يصدق ليس بسبب التواضع، ولكن لأن الرجل ليس لديه وقت لمثل هذه الأفكار فهو إما مشغول بالإعداد لفيلم جديد أو تمثيل دور أو الاستثمار العقاري أو إدارة سلاسل المطاعم التي يمتلكها.
ورغم انتشار صوره وأفلامه في كل بقعة من الأرض فإن العالم بالنسبة لدي نيرو هو نيويورك، فهو يعيش في المدينة ويستثمر فيها، إنها العالم بالنسبة له، وهو أمر يبدو طبيعيا لطفل ولد عام 1943 من أبوين غارقين في عالم الفنون التشكيلية، طلقا بعد عامين فقط من ولادته، لتتكفل والدته بتربيته، لكن هذا الطفل الوحيد تزوج فيما بعد وكون أسرة قوامها 7 أبناء وزوجتين انفصل عنهما.
عرف الصبي النيويوركي ماذا يريد منذ بلغ سن 16، فترك الدراسة الثانوية ليلتحق باستديو لتعليم التمثيل، وبدأ مشواره في حين كانت الولايات المتحدة تحكم زمام السيطرة على العالم وتطلق إشارة الحرب الباردة ويعيش المجتمع الأميركي حالة غليان مع جيل جديد من الحالمين بعالم تسوده الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان، حسب مفهومهم.
شهد دي نيرو تحولات أميركية فريدة من نوعها، وكان جزءا منها أيضا، إذ ولد قبل نهاية الحرب التي حسمت سيطرة واشنطن على القرار العالمي، وشهد في شبابه انطلاق الحرب الباردة، وشارك في الحلم الأميركي الذي كان وجهه أحد ملامحه، فقد كان أبرز ما في مرحلة الستينيات في العالم كله والولايات المتحدة بشكل خاص ذلك الطموح للحالة الأخلاقية الأميركية التي شكلت ما سمي الحلم الأميركي بكل ما فيه من حرية واستقرار وفرص للعيش.
ورغم الهامش السياسي في حياته، الذي امتد فيما بعد وجسده إيمان عميق وانتماء للحزب الديمقراطي، فإن عمل دي نيرو الفني لم يتأثر يوما بها، إذ صعد إلى سماء هوليود سبعينيات القرن الماضي. وكانت أبرز محطاته دائما مع ابن نيويورك الثاني المخرج مارتن سكورسيزي، إذ تشاركا في 10 أفلام صنعت لكل منهما تاريخا ونجاحا لا يتكرر.
وكان أحدث أفلام الثنائي الهوليودي "قتل أزهار القمر" أما أبرزها فهو "سائق التاكسي" (Taxi Driver) عام 1976، "الثور الهائج" (Raging Bull) عام 1980، "رجال شوارع" (Mean Streets) عام 1973، "قبعة الخوف" (Cape Fear) عام 1991، "ملك الكوميديا" (The King Of Comedy) عام 1982، "الرجل الأيرلندي" The Irishman) عام 2019، "كازينو" Casino)) عام 1995، "رفاق جيدون" (Goodfellas) عام 1990.
وتعاون دي نيرو أيضا مع برايان دي بالما وإيليا كازان، ونال عن دوره في الجزء الثاني من فيلم العراب" (God Father 2) للمخرج فرانسيس فورد كوبولا جائزة الأوسكار الأولى، أما الثانية فكانت مع سكورسيزي عن دوره في فيلم الثور الهائج.
تتميز مسيرة دي نيرو بتنوع وثراء مدهش يجمع بين أساليب التمثيل المختلفة، فبينما هناك من يقدم شخصية يمحي فيها حضوره الشخصي ليفرض الشخصية التي يقدمها فقط، وهناك من يمثل بشخصه دائما، ليدرك المشاهد دائما أنه ممثل يقدم شخصية، فإن دي نيرو يجمع بين الأسلوبين، فمثلا لا يمكن تصور سائق التاكسي بشكل مختلف عما قدمه دي نيرو، أما رجال العصابات الذين قدمهم سواء في "العراب" أو "رفاق جيدون" فقد أكد على شخوصهم دون حضور شخصي للمثل دي نيرو، ولعل المثال الأخير يبرر ذلك الانطباع الذي يشير إلى أسطورة هوليود باعتباره زعيم عصابة ضل طريقه إلى الشاشة.
بالإضافة إلى استثماراته البالغة أكثر من 500 مليون دولار، يملك دي نيرو شركة إنتاج تحت اسم "تريبيكا" ويقيم مهرجانا سنويا للأفلام منذ 2002 بالاشتراك من المنتجة جين روزنتال، ويتم خلاله عرض أفلام روائية وقصيرة ووثائقية.
سئل دي نيرو عن رأيه في دونالد ترامب والذي كان قد نصب رئيسا للولايات المتحدة حينها، فقال إن مكانه ليس البيت الأبيض وإنما السجن، وسئل في برنامج آخر فقال إن ترامب رجل عصابات فاشل، ولم يكن دي نيرو يختلف في ذلك عن أغلب فناني هوليود لكنه كان الأعنف في نقده للرئيس الذي يجسد كل ما انتقدته أفلام دي نيرو، ولعل قراءة تاريخ ونشأة الممثل ذي الأصول الإيطالية الأيرلندية تشير بوضوح إلى أن الولد الذي نشأ في مرحلة الصعود الصاروخي للحلم الأميركي أصبح بمثابة ضمير حي لمرحلة الستينيات، وكان تجسيدا للفكرة الأخلاقية الأميركية.