آل باتشينو.. الأب الروحي للتمثيل في هوليود

الوائع الاخبارية : لم يستغرق آل باتشينو وقتا طويلا ليلفت أنظار الكبار في هوليود إلى قدراته، فقد ألهب أداؤه المبهر كبار المخرجين منذ اللحظة الأولى، وبرهن النجم الذي تحول إلى "أب روحي" للتمثيل في هوليود على أنه يملك موهبة بلا حدود وقدرات تؤهله لاعتلاء عرش التمثيل؛ ففي 63 فيلما، استعرض باتشينو تلك القدرة على التجسيد وفاز عنها بـ51 جائزة وأكثر من 100 ترشيح.

في أبريل/نيسان 1940، كانت أوروبا تحترق بنيران الحرب العالمية الثانية، فقد دخلت السفن الألمانية إلى موانئ النرويج، مما دفع بريطانيا إلى الهروب بجنودها من هناك إلى فرنسا، وفي الجانب الآخر من العالم كانت نيويورك تتعافى من آثار الركود العظيم الذي ضربها قبل 10 أعوام، وفي القلب منه يكافح أبناء المهاجرين للعثور على فرص العيش في الدولة الوحيدة التي لم تصبها نيران الحرب بأضرار كبيرة. ولأبوين من أصول إيطالية، ولد الطفل ألفريدو جيمس باتشينو في ذلك الشهر يوم 25 أبريل/نيسان 1940، ولحظه التعيس، انفصل والداه وعمره عامان فقط.

لم تكن الشهادات الدراسية في ظل حرب عالمية تعد أمرا جوهريا، خاصة لمراهق أجبرته الظروف على العمل في كل ما يمكن أن يدر عليه مالا، فترك الدراسة واختار أن يستمر في تعلم التمثيل والعمل لكنه لم يحصل يوما على شهادة دراسية، وظل الحصول على المال اللازم للحياة اليومية مهمة شديدة الصعوبة، فأصابه اكتئاب شديد حاول أن يعالجه بالعروض الكوميدية التي كان يقدمها في المقاهي.

تقدم ألفريدو للعديد من الاستوديوهات بهدف الحصول على فرصة في التمثيل ولكنه رُفض، حتى اعتاد على الرفض. وفي عام 1966، تم قبوله في استوديو الممثلين، حيث درس تحت إشراف مدرب التمثيل الأشهر لي ستراسبرغ، ثم جاءته الفرصة عام 1969 بدور متواضع، وكان الطفل -الذي اختزنت جيناته المسرح الإيطالي والتراث الاجتماعي لصقلية في إيطاليا، وأجواء الطموح المتوحش في نيويورك- على وعد مع حظه.

تردد الممثل الشاب آل باتشينو في قبول دور (مايكل كورليوني) في فيلم "الأب الروحي"، لأنه دور شخص شرير وكان الممثل الشاب يبحث عن دور كوميدي ليحبه الجمهور، لكن كوبولا أقنعه أن (كورليوني) هو فرصة عمره؛ وبالفعل، نال عنه أول ترشيح لجائزة الأوسكار، لكن فكرة الدقة في اختيار الأدوار ظلت مرافقة لآل باتشينو طوال مشواره الفني.

عطر امرأة
رُشح آل باتشينو لجائزة الأوسكار 9 مرات، لكنه فاز بها عن فيلم "عطر امرأة" (Scent of a Woman) عام 1993، الذي قدم فيه دور قائد عسكري متقاعد أعمى يرافقه شاب في أثناء قضاء الأخير للإجازة الصيفية من الجامعة، ولو لم يقدم آل باتشينو سوى مرافعته في مدرسة "بيرد" عن معنى الرجولة وقيمة الصدق والنزاهة في مواجهة الشعارات الجوفاء وفساد الأرواح لقيادات المدرسة والمجتمع لاستحق الأوسكار عنها، لكن أداءه في الفيلم -بشكل عام- مبهر إلى حد يجعل مشاهد العمل يتوحد معه في الغضب والحزن والحنين والشعور العميق بالقلق تجاه مستقبل الأجيال القادمة.

ورشح النجم الهوليودي لنحو 115 جائزة وفاز بـ51 منها، وبينها أوسكار أحسن ممثل و4 جوائز غولدن غلوب وجائزتي إيمي وجائزة بافتا، بالإضافة إلى جائزتي "توني لأفضل ممثل مسرحي" و"درع الإنجاز الإبداعي"، ولم تكن كل هذه الترشيحات والجوائز إلا نتيجة موهبة طاغية وقدرة على الاختيار والتمييز. وكانت المرحلة الأولى من أعمال باتشينو قد اختصرت بدور (مايكل كورليوني) سنوات من العمل للحصول على جماهيرية، وقد انعكس ذلك في التأني في اختيار الأدوار واعتبار الهدف الأول للدور هو الاستمتاع به، وليس ممارسة التمثيل بوصفه مهنة فقط.

قدم الممثل المحظوظ -بعد الجزء الأول من "الأب الروحي"- فيلم "الفزاعة" (Scarecrow) عام 1973، ثم خطى 3 خطوات نحو الأوسكار صعودا، حيث رشح عن الأفلام الثلاثة التالية للجائزة وهي "سيربيكو" (Serpico) عام 1973 الذي لعب فيه دور شرطي يكشف شبكة فساد تتكون من زملائه، والجزء الثاني من "الأب الروحي"، وفيلم "عصر يوم قائظ " (Dog Day Afternoon) عام 1975.

لا ينافس الممثل السينمائي آل باتشينو سوى الممثل المسرحي آل باتشينو، وقد صرح في حوار تليفزيوني قائلا "إن السينما بالنسبة لي هي اختيار ثان بعد المسرح، وأنا أعمل فيها لما تدره من أموال تفوق ما يدره المسرح بكثير، لكني بالفعل أشعر أني في بيتي حين أكون في المسرح".

وفي إحدى الليالي، صعد آل باتشينو خشبة المسرح في برودواي لأداء دوره في مسرحية "هل يرتدي النمر ربطة عنق؟" (Does a Tiger Wear a Necktie)، كانت القاعة قد امتلأت عن آخرها، فشعر برهبة غريبة، وحاول أن يتمالك نفسه، فقال لنفسه هامسا "أنت ممثل مسرحي محترف.. ركز في الدور.. ظل لـ10 دقائق كاملة يحاول التركيز، لكنه لم ينجح. وفجأة، لمح في أحد أركان القاعة عينين منحتاه اطمئنانا غريبا، فتحول في ثوان معدودة إلى وحش المسرح المعروف آل باتشينو، وقدم الدور كما لم يقدمه أحد من قبل، انتهت المسرحية بتصفيق دام لأكثر من 10 دقائق، ساقه الفضول للبحث عن صاحب العينين، فنظر في ركن القاعة.. ليجد العينين لكلب صغير!

ورث آل باتشينو تراثا مسرحيا يرجع لمدينة صقلية الإيطالية موطن أجداده، ليحط الرحال بالقرب من حي هارلم في نيويورك، وزحف بخطوات بطيئة في بداية حياته المهنية، باحثا عن فرصة.

وقد كان المسرح دائما أكثر رأفة به؛ إذ وجد فرصته فيه قبل السينما بسنوات كثيرة وشارك في كثير من العروض قبل شهرته السينمائية، وحصل آل باتشينو على جائزتي توني (وهي تعادل الأوسكار في السينما) وبحصوله عليها توج بتاج التمثيل الثلاثي. وكان العرضان اللذان منحاه الجائزة هما "هل يرتدي النمر ربطة عنق؟" عام 1969 و"التدريب الأساسي لبافلو هوميل" (The Basic Training of Pavlo Hummel) عام 1976.

لدى آل باتشينو خطط لأعوام كثيرة قادمة، ويبحث عن معالجات جديدة لنصوص شكسبير الخالدة ولا يتوقف عن البحث عن سيناريو لفيلم جديد، ولا يتعامل مع الزمن إلا باعتباره رقما بلا دلالة، وهو يخطو نحو مرحلة جديدة في قصره في بيفرلي هيلز بـ51 جائزة و3 أبناء وثروة تقدر بـ165 مليون دولار، وعدد هائل من الأصدقاء حول العالم.

لو لم يقدمه المخرج فرنسيس فورد كوبولا، لظل آل باتشينو ممثلا صغيرا يلعب في مساحات مساعد البطل لزمن طويل. ولو لم يكن آل باتشينو مقاتلا صلبا لا يعرف اليأس، لتمكن منه الاكتئاب ودفع به إلى عالم المجهول؛ فرغم عشقه للتمثيل وبداياته المبكرة في العروض الكوميدية المستقلة، فلم يحصل الشاب ذو الأصول الإيطالية على فرصة العمل بالسينما إلا بعد أن قارب الـ30 من عمره في فيلم "أنا ناتالي" عام 1969، لكن بدايته الحقيقية جاءت في فيلم "الأب الروحي" الذي أطلق طاقاته الإبداعية كشهاب في سماء النجومية.