من التقنيات إلى أفلام الرعب.. الحروب التي غيرت خريطة السينما العالمية
الوقائع الاخبارية : تترك الحروب علاماتها التي لا تمحى على كل شيء تمر به، ريح عاصفة لا تترك شيئا على حالها، بلاد تذوى، أجيال تتنفس رائحة الموت، معالم تدمر أو تحرق، تتغير الحياة بشكل جذري بسبب قرار عنيف لشخص وصل إلى السلطة بخطأ تاريخي لا يُنسى.
والفنون -ومنها السينما- مثل أي شيء آخر تتأثر بالحروب، لا يتوقف الأمر عند تناولها في الأفلام السينمائية بزواياها المختلفة، ولكن الحرب كحقيقة تغير مسار الإنتاج السينمائي في كل بلد تمر به، مثل ظهور موجات سينمائية مستحدثة، أو اندثار أخرى، أجيال جديدة من الفنانين تظهر بأساليب مختلفة، بينما تذبل أجيال سابقة.
وهنا نتحدث عن بعض الحروب التي غيرت خريطة السينما العالمية، ولا يمكن رصد تطور الأخيرة من دون أن نذكر المسبب الأكثر دموية على الإطلاق "الحرب".
الحرب العالمية الأولى ونهضة الوحش الأميركي
في العقدين الأول والثاني من عمر السينما كانت فنّا عالميا بحق، ساهم في ذلك غياب الصوت، فكانت لغة الصورة هي المسيطرة، وبالتالي تنتقل الأفلام بسلاسة من بلد لآخر من دون تعقيدات مثل الترجمة والدبلجة، حيث بدلا من الحوار كان يستعان من وقت لآخر بلوحات مكتوبة تتخلل المشاهد المعقدة، والتي كانت تطبع بترجمات مختلفة ويتم إرسالها لكل بلد عارضة.
كان العالم لا يزال جذلا بهذا الفن المستجد، يتنافس كل بلد على تقديم أفضل ما لديه في هذا السوق العالمي المفتوح، فنهضت السينما الأميركية في نيويورك قبل انتقالها إلى لوس أنجلوس وبناء هوليود، وأصبح لكل بلد أوروبي صناعة سينمائية مميزة، بين الأفلام الرومانسية والكوميدية الفرنسية والدراما التاريخية والإنتاجات الضخمة الإيطالية.
كان يمكن أن يستمر ذلك حتى اختراع الصوت، والتغييرات الطبيعية المصاحبة له، لكن هذا المسار الطبيعي اعترضه وحش غير خريطة السينما العالمية، هذا الوحش هو الحرب العالمية الأولى.
انخرطت دول أوروبا في قتال بعضها البعض، وبطبيعة الحال أدارت ظهرها للفنون خاصة المكلفة منها مثل السينما، وفي تحول بائس للغاية أصبحت الأفلام الخام المستخدمة في تصوير الأفلام جزءا من صناعة الأسلحة، وفي ظل هذا التوقف انفردت السينما الأميركية بالساحة العالمية، وأصبحت المنتج الأكبر في السوق السينمائي، ما أسهم في ظهور ما سمي لاحقا عصر هوليود الذهبي، حيث ساهم ضخ الأموال في الصناعة السينمائية بمقادير هائلة في بناء الأستوديوهات العملاقة، وبدء نظام النجوم الأميركي.
وتشكلت بالفعل هوليود الكلاسيكية بفضل الحرب العالمية الأولى، في حين أرهقت أوروبا بالحرب، وخرجت مثخنة، تحاول لعق جراحها، والبدء من جديد وملاحقة التغيرات التكنولوجية التي حدثت خلال فترة ثباتها.
في هذه الفترة برز أهم نجوم هوليود الذين نتذكر بعض أعمالهم حتى الآن، وعلى رأسهم شارلي شابلن القادم من بريطانيا إلى أميركا عام 1914 مع بداية الحرب، وسريعا ما أصبح ملك السينما الكوميدية المتوج، وتضاعف أجره خلال الحرب بشكل سنوي حتى أعجز الأستوديوهات، وأنشأ شركة إنتاجه الخاصة، وبنى شخصية الصعلوك خطوة بخطوة خلال هذه المسيرة التي استمرت بعد نهاية الحرب.
الحرب العالمية الثانية والواقعية الإيطالية الحزينة
الفترة ما بين الحربين لم تكن كافية لاستعادة السينما الأوروبية كامل قدراتها، فالكثير منها سقط في فخ الأفلام التجارية أو ميلودراما تتناسب مع مزاج الشعوب الذي مال إلى الترفيه والبعد عن أي ما يثير ذكرياته السيئة عن الحرب ومأساتها، حتى أتت الحرب العالمية الثانية وأجهزت على ما تبقى من البنية التحتية السينمائية في أوروبا، وفي إيطاليا على وجه التحديد تدمرت فيها أستوديوهات التصوير من ضمن ما دُمر فيها، وانتهت الحرب تاركة وراءها أطلال صناعة سينمائية زائلة.
لكن في هذا الدمار غرست الواقعية الإيطالية جذورها، وهي حركة ثقافية وسينمائية نشأت في إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتأقلمت مع نتائج هذه الحرب، وظهر مجموعة من المخرجين الذين لم يبالوا بغياب الأستوديوهات وصوروا أفلامهم في شوارع روما وضواحيها، ولانتهاء أجيال سابقة من الممثلين لجأ المخرجون للهواة، وللتجارب التمثيلية الأولى.
ولكن الأمر لم يتوقف عند الصعوبات الإنتاجية التي تم تجاوزها، واهتمت أفلام الواقعية الإيطالية كما يبدو من اسمها بحال المواطن الإيطالي العادي فيما بعد الحرب، واصطبغت الأفلام بخليط من الشجن وخفة الظل الإيطالية، ومن أشهر الأفلام التي تعتبر مثالا على هذه الحركة "سارقوا الدراجات" (Bicycle Thieves) إخراج فيتوريو دي سيكا، وفيه أب يكافح لإعالة عائلته في ظل البطالة المسيطرة على بلاده، ويحصل على وظيفة بشرط امتلاكه لدراجة، ولا تكاد الأسرة تفرح بهذا الحل السحري لمشاكلها حتى تُسرق دراجته، فيقضي يومه مع ابنه الصغير في الشوارع باحثين عنها في الشوارع والأزقة، وعندما يستولي عليه اليأس يقرر سرقة دراجة أخرى فتقبض عليه الشرطة.
ويتناول الفيلم أزمة البطالة ما بعد الحرب، ونشاهد فيه صورة واقعية عن إيطاليا الفقيرة وفيها الجوع والبرد ينهشان الأسرة، التي قد ينتهي مصيرها إلى ما هو أسوأ من ذلك بسبب سرقة الدراجة، والتي سرقها بالتأكيد أشخاص أكثر فقرا من بطل الفيلم في دائرة لا تنتهي من البؤس.
القنبلة النووية وأفلام الرعب
انتهت الحرب العالمية الثانية بإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما ونكازاكي، وولد السلاح المرعب الذي يهابه البشر منذ ذلك اليوم وحتى الآن، والذي ألهم صناع الأفلام من حول العالم بشدة، ليس فقط في الأفلام التاريخية والحربية التي تناولت قصة المدينتين قبل وبعد القنبلة، لكنها أصبحت ركنا أساسيا في أفلام الرعب بعد ذلك.
فعلى سبيل المثال "غودزيلا" (Godzilla) الوحش المرعب الذي قُدم في 32 فيلما بالإضافة إلى عشرات القصص المصورة والألعاب كانت بدايته كناتج من إلقاء القنبلة النووية في الفيلم الياباني بذات الاسم إنتاج عام 1954، وفيه يظهر الوحش من قاع المحيط، مسببا الكثير من الحوادث المؤسفة، وعند البحث عن مصدره يعلن العلماء أن الإشعاع الذري الذي خلفته قنبلة الولايات المتحدة هو الذي سبب الطفرة الجينية التي أنتجت هذا الوحش المرعب.
انتقل غودزيلا بعد ذلك إلى هوليود، وتغذت السينما على المعلومات العلمية التي ظهرت بشكل مستمر حول طبيعة القنبلة الذرية وتأثيرات الإشعاع والطفرات الجينية والوحوش المتخيلة، فيمكن أن تجد أثرها في أفلام من كل اللغات، خاصة الرعب والخيال العلمي بطبيعة الحال.
قد يبدو ما سبق مجرد تأثير جانبي للحرب بالتأكيد ليس أسوأ ما قامت به، لكن تظل الأفلام وثيقة ضرورية عند البحث عن أي حدث تاريخي، مثلها في ذلك مثل الكتب التاريخية والروايات الخيالية، والسينما كفن مر عليه أكثر من قرن، أثبتت أنها تشكلت بالفعل عبر الحروب المختلفة.