هل بات الاقتصاد الألماني تحت رحمة الصين؟

الوقائع الاخبارية : لم تقف تداعيات الأزمة الأوكرانية عند العلاقات الألمانية الروسية وما تلاها من مشكلات بين البلدين لا سيما في مجال الغاز، بل كشفت تلك الأحداث عن مخاطر إستراتيجية تهدد اقتصاد الدولة الألمانية.

فبعد مشكلة الغاز مع روسيا فجّر وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر مفاجأة من العيار الثقيل حين تحدث عن تبعية اقتصادية ألمانية للصين، حيث قال في تصريح لصحيفة "دي تسايت" (Die Zeit) "ما يقلقني بالنسبة للوضع في ألمانيا أننا لدينا تبعية اقتصادية قوية للصين"، وأضاف "علينا تنويع علاقاتنا التجارية بما في ذلك صادراتنا".

علاقات مشوبة بالحذر
وبرغم ضخامة التبادل التجاري بين البلدين واعتماد ألمانيا في كثير من صناعاتها على الصين، إلا أن ثمة توترات حصلت في علاقات البلدين وذلك نتيجة مواقف سياسية.

ومثال ذلك ما حصل خلال عام 2021 عندما حذّرت الصين الاتحاد الأوروبي من خطورة شراكة ليتوانيا مع حكومة تايوان (وهذا الأمر يعد خطا أحمر في العلاقات الصينية الدولية عندما توثق أي دولة من دول العالم علاقات دبلوماسية مع تايوان).

وقد تزايد قلق المستثمرين الألمان الذين لديهم مصالح في الصين خاصة في فترات الإغلاق الناجمة عن الحد من انتشار جائحة كورونا المفروضة على كبرى المدن الصناعية مثل شنغهاي وشينزن، وهما مركزان اقتصاديان رئيسان.

وتوترت العلاقات الصينية الألمانية أكثر مع فرض الاتحاد الأوروبي وأميركا مؤخرا عقوبات على روسيا جراء حربها مع أوكرانيا؛ ما سبب حرمان الشركات الصينية من الاستفادة من السوق الروسية.

كما أضافت الحكومة الألمانية ضغوطا على الصين منتقدة اضطهاد الصين لمسلمي تركستان (الإيغور)، وعليه تنوي العديد من الشركات الألمانية تقليص وجودها في الصين إلى النصف، بينما تحاول بكين جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من خلال طمأنة الأوروبيين للاستثمار في بلادها.

ويعتمد نحو نصف الشركات الصناعية الألمانية على منتجات أولية ومهمة مصدرها الصين تتصدرها شركات السيارات، ووصل حجم التبادل التجاري بين الصين وألمانيا في عام 2021 قرابة 270 مليار دولار أميركي.

حجم الصادرات بين البلدين
وعن حجم التبادل التجاري بين الصين وألمانيا، قال أنس حافظ الخبير الاقتصادي في الصين وهونغ كونغ إن حجم الصادرات الألمانية نحو الصين بلغ خلال عام 2021 نحو 123.7 مليار دولار أميركي، تصدرها صناعات السيارات بـ28 مليار دولار وتلاها الآلات والصناعات النووية بـ22.5 مليار ثم المعدات الكهربائية 19 مليار دولار وغيرها من التجارات التي تحتاجها الصين.

في المقابل كانت الصادرات الصينية إلى ألمانيا حتى فبراير/شباط 2022 قد سجلت ارتفاعا نسبيا قدره 24.5% عن العام السابق وصلت بها الصادرات إلى 122 مليار دولار أميركيا.

وتمثل ألمانيا الشريك التجاري الخامس بين دول العالم للصين، وتحتل ألمانيا مكانة الجسر الاقتصادي والوسيط للعلاقات الصينية والدول الأوروبية، وهي أكبر حلقات سلاسل التوريد بين الشرق والغرب.

**داخلية** أنس حافظ
أنس حافظ: حجم الصادرات الألمانية نحو الصين بلغ 123.67 مليار دولار أميركي عام 2021 (الجزيرة)
هل تستطيع ألمانيا الإفلات من الفخ الصيني؟
ما يحصل الآن هو مأزق في الرأسمالية العالمية وليس ألمانيا فحسب، فقد ظنت الرأسمالية العالمية في الثمانينيات من القرن الماضي أنها بحاجة إلى إعادة تقسيم العمل الدولي من أجل تخفيض أسعار سلعها التي تعاني من ارتفاع كلفتها مقارنة بالسلع المنافسة التي تنتج خارج المنظومة الرأسمالية.

فضلا عن محاولة تخليص الإنتاج الرأسمالي من قيود الإنتاج والتسعير الكثيرة والمعقدة في الاقتصادات الرأسمالية، حيث قررت تلك الدول نقل الصناعات إلى بلاد تمتاز برخص اليد العاملة وسعة الأسواق، وكان القرار بالاتجاه شرقا نحو الصين ومنطقة جنوب شرقي آسيا، فتفوقت المنتجات الغربية التي كانت تعاني من انخفاض جودتها الإلكترونية أمام المنتجات اليابانية بسبب ارتفاع أسعار موادها الأولية والوسيطة وعادت في الألفية الجديدة لتتربع على قائمة المبيعات في العالم مرة أخرى بسبب سوق الإنتاج الصيني ومحيطه الآسيوي.

في هذا الوقت كانت الصين تنصب فخا كبيرا للمنظومة الغربية، على حد تعبير الخبير الاقتصادي العالمي الدكتور محمود خالد المسافر، فقد ربطت الاقتصادات الغربية بالاقتصاد الصيني الذي حقق على حسابها أرباحا هائلة ضمنت له التفوق المالي في العالم.

التمدد الاقتصادي الصيني
وعن الأسلوب الصيني في محاولة السيطرة على الاقتصاد الغربي وفي القلب منه ألمانيا، قال الدكتور محمود خالد المسافر للجزيرة نت "لم تتوقف الصين عند فتح أسواقها للصناعات الغربية وتقديم تسهيلات كبيرة للشركات الكبرى، بل قامت بالمرحلة الأخرى بشراء عدد من كبريات الشركات العالمية. ولم تقتصر على صناعة معينة أو قطاع بحد ذاته أو منتج محدد، بل وصل الأمر لشراء شركات طيران ومعامل سلاح ومصانع سيارات وكبريات شركات الفندقة والشركات المالية، وأندية كرة القدم وصالات القمار الكبرى.

وعلى سبيل المثال أصبحت شركتها في صناعة القطارات "سي آر إي سي" (CREC) -والمساهم الأكبر فيها هي الحكومة الصينية- أكبر شركات صناعة القطارات في العالم وتنافس اليوم مجموعة الشركات المتحدة الألمانية لصناعة القطارات "في دي بي" (VDB).

فقد استحوذت الشركة الصينية وفي وقت قصير لا يتجاوز العقد على أغلب أسواق المجموعة الألمانية التي ظلت تتربع على عرش هذه الصناعة لمدة طويلة من الزمن.

لكن مقابل ذلك تنتج شركات السيارات الألمانية ومنها "مرسيدس" و"بي إم دبليو" (Bmw) ومنذ عقدين أعلى أنواع السيارات الكهربائية في العالم باستخدام المواد الأولية المنتجة في الصين، كما أن السوق الصيني أصبح السوق الرئيس للسيارات الألمانية والتي لا يمكن بسهولة التخلي عنه، فضلا عن أنه لا يمكن بسهولة التخلي عن المواد الأولية والوسيطة التي تزودها بها الصين ودول المحيط الحيوي.

وتؤكد آخر الأرقام أن مبيعات مرسيدس مايباخ الشهرية في الصين تعادل مبيعاتها السنوية في الأسواق العالمية عدا الصين، وفي ظل الإغلاقات في الصين عام 2020 بسبب وباء كورونا حققت مبيعات مرسيدس زيادة سنوية مقدارها 12% عن العام الذي سبقه.

وحققت عام 2021 مبيعات أعلى من العام الذي سبقه وبنسبة مقدارها 8% ويتوقع الاقتصاديون أن عام 2022 سيشهد ارتفاعا كبيرا في مبيعات السيارات الفارهة في الصين.

وختم كلامه قائلا إنه في ظل الظروف الحالية والأزمة الروسية الأوكرانية التي وفرت الظروف لإعادة التموضع الاقتصادي فضلا عن السياسي، والتي بموجبها رأت أوروبا أنها قد تم غزوها من الاقتصاد الصيني، وأنه آن الأوان لفك الاشتباك.

وهنا تأتي أهمية التساؤلات؛ هل بإمكان الأسواق الغربية اليوم استيعاب الملايين من السيارات الألمانية التي تنتج لأغراض السوق الصينية فيما لو تم الاستغناء عن تلك السوق؟ وهل بإمكان الصناعات الألمانية التخلي عن المواد الصينية الأولية والوسيطة التي تمتاز بتفوقها الإلكتروني والاستغناء عنها بدول أخرى ؟ الجواب لا.