لتعويض نقص المخزون.. الحكومة المصرية تفرض غرامات على المزارعين بسبب توريد القمح

الوقائع الاخبارية : فرضت الحكومة المصرية مؤخرا غرامات على المزارعين الذين لم يقوموا بتوريد الكميات القمح المطلوبة منهم، مع تهديدات بوصول العقوبات إلى سجن من لا يسدد الغرامات المقررة، البالغة نحو 1770 جنيها (95 دولارا) وهي تقريبا ضعف سعر الشراء الحكومي للأردب المحلي.

وبموجب قانون قديم يحمل رقم 58 لسنة 1937، استدعت الحكومة للفلاحين عقوبات على الغش في المعاملات التجارية، وأدرجت فيها "جرائم" توريد القمح بغير الطريق المحدد.

وحررت السلطات بناء على ذلك نحو 228 قضية في مجالات "التهريب خارج منظومة القمح، وخلط القمح المحلي بالمستورد والتخزين الخارجي للأقماح المحلية"، ضُبط خلالها 201 متهم بمضبوطات بلغت 13 ألفا و863 طنا و551 كيلوغراما من القمح، وذلك خلال شهر واحد، وفق بيان رسمي.

وتنشط هذه الأيام لجان مشكلة من موظفي مديريات الزراعة والتموين بالمحافظات، لمراقبة عمليات التوريد بمختلف مدن وقرى كل محافظة، وذلك بمراجعة دفاتر الجمعيات الزراعية الخاصة بالحيازات الزراعية لمحصول القمح للوقوف على مدى مطابقتها للمساحات المزروعة وكميات القمح الموردة.

ولجأت الحكومة إلى هذه القرارات والإجراءات في سبيل تعويض النقص من مخزون القمح، ونجحت في جمع أقل من 4 ملايين طن من القمح حتى الأربعاء الماضي، حسب تصريحات مسؤولي وزارة الزراعة، وهو أقل من المخطط له خلال هذه الفترة، رغم أنه أكبر مما جرى جمعه خلال الفترة نفسها في السنوات الماضية، وحققت محافظة المنيا (جنوب) المستهدف من حصيلة القمح بنسبة 100%.

وتأمل الحكومة في جمع نحو 5.5 ملايين طن، نزولا من 6 ملايين طن استهدفت جمعها قبل شهرين، لسد العجز في واردات القمح الناشئ عن الحرب الروسية الأوكرانية، فالدولتان ظلتا طويلا من أكبر موردي القمح لمصر.

وتحتاج مصر إلى نحو 9 ملايين طن من القمح سنويا، مما يعني أن خطة الحكومة تستهدف جمع أكثر من نصف الاحتياجات من السوق المحلي.

مأزق حكومي
يعتقد معنيون بشؤون الزراعة في مصر أن الحكومة في مأزق دفع وزير الزراعة، السيد القصير، مؤخرا لمناشدة الفلاحين "بوطنيتهم" لتوريد القمح، وهو ما عُدّ فشلا لسياسة الوعيد بالغرامات والسجن، التي اتبعتها الحكومة لسد العجز الناشئ عن قلة المستورد من القمح، نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.

ويبدي رمضان -وهو مزارع من أسيوط (جنوب)- سخرية من مناشدات الوزير للفلاح بوطنيته، إذ بات الفلاح محصورا في زاوية ضيقة بين "وطنيته التي ستخسره قوت عياله"، ومصلحته بأن يبيع القمح للمطاحن الخاصة فيحقق ربحا يكافئ جهده وأزيد مما لو باعه للحكومة بسعر 885 جنيها للأردب (أقل من 50 دولارا)، وساعتها يخسر، مطالبا الحكومة بأن تكون هي الأخرى "وطنية" وتدعم الفلاح بما يلزمه من تقاوي ومبيدات جيدة، وميكنة زراعية بأسعار مناسبة، هذا لو أرادت استمرار الفلاح في زراعة القمح مستقبلا، حسب تعبيره.

ويتابع رمضان بأنه حصل على 6 أجولة من الأسمدة من الدولة بسعر مدعّم (الحد الأقصى المسموح له بشرائه من الدولة)، ثم اشترى مثلها من السوق بضعف السعر؛ إذ يحتاج الفدان الواحد إلى 6 أجولة، كما ذكر في حديثه للجزيرة نت.

وتشتري الحكومة أردب القمح من السوق العالمي بما يعادل 1400 جنيه (أقل من 74 دولارا)، وفق ما أعلنته هيئة السلع التموينية في المناقصة التي طرحتها مؤخرا بدعوة موردين عالميين من رومانيا وبلغاريا وروسيا.

"حكومة ناصحة"، بوصف ساخر يعلق رمضان -الحاصل على مؤهل جامعي يعمل به موظفا ويزرع في الوقت نفسه أرضا ورثها عن والده- معتبرا ما تقوم به الحكومة هو ترحيل لأزمتها على كاهل الفلاح وحده "تريد أن تحل مشكلتها على حسابي، في حين تفيد الفلاح الروماني والروسي"، هكذا قال مشيرا إلى شراء الأردب منه بنصف السعر العالمي.

ومطلوب من رمضان توريد نحو ثلثي إنتاج أرضه من القمح، ما يعادل 24 أردبا عن فدانين يزرعهما قمحا، وهو يبدي اندهاشا من المبالغة في تقدير إنتاجية الفدان من القمح، مما يضعه -على أي حال- تحت مقصلة التهديدات التي تلاحقه، وبين مطرقة الغرامة لو باع للمطاحن الخاصة وسندان الخسارة لو باع للحكومة.

وهذه الكمية المطلوبة من المزارعين تم تحديدها على أساس الإنتاج المفترض للفدان الواحد، إذ قدرّت الحكومة الأراضي المزروعة قمحا حاليا بنحو 3 ملايين و650 ألف فدان، وقدرتها كذلك بالنظر لما تصرفه الجمعيات الزراعية للفلاحين من مستلزمات لزراعة القمح، في حين أن هذه المستلزمات تصلح لزراعات أخرى.

وبناء على هذه التقديرات بشّر وزير التموين، علي مصيلحي، منذ أسابيع بأن مصر لن تستورد قمحا خلال هذه الفترة، وأن "الخير متوافر"، قبل أن تتراجع الحكومة وتقرر طرح مناقصة استيراد القمح الأخيرة، اعترافا منها -فيما يبدو- بواقع العجز في القمح على الأرض، وخطأ التقدير الأول.

واستكشفت الحكومة وضع سوق القمح العالمي عقب الحرب الروسية على أوكرانيا، من خلال مناقصتين دوليتين في فبراير/شباط الماضي، جرى إلغاؤهما بسبب قلة العروض أو ارتفاع أسعارها، فاتجهت للسوق المحلي، قبل أن تكتشف عدم كفايته لسد الاحتياجات الغذائية، لتعقد مناقصة أخرى لاستيراد القمح مطلع أبريل/نيسان الماضي.

وبالتوازي مع الوعيد، هناك الوعد الحكومي للمزارع "الملتزم" بتوفير أصناف محسنة وأسمدة مدعمة لصغار المزارعين، مع علف بسعر مناسب، وهو عبارة عن نخالة ناتجة عن عمليات طحن القمح، منعا لقيام الفلاحين باحتجاز جزء من القمح ليكون علفا لمواشيهم.

خطط مجدبة
ويرى إسماعيل ترك، مستشار وزير التموين الأسبق، أن الحكومة المصرية رغم معرفتها باتجاه أسعار القمح للزيادة، فإنها فوجئت بالحرب الروسية الأوكرانية، ووجدت أن مخزونها لن يكفي لسد احتياجاتها، فلجأت للتلاعب في حساب المخزون وحاولت تغطية ذلك على حساب الفلاح بأن حددت متوسطا مرتفعا لإنتاج الفدان، وألزمت الفلاح بتسليم ثلثيه وبسعر يقارب نصف السعر العالمي وقت توريد الفلاح للقمح، وجعلت عقوبة عدم التنفيذ الحبس.

وتابع ترك -في حديثه للجزيرة نت- أنه مع اقتراب نهاية موسم الحصاد اكتشفت الحكومة أنه يستحيل عليها تحقيق المستهدف وهو 6 ملايين طن، وأن عدد الفلاحين المعرضين للحبس -وفقا للقرار الوزاري- يمكن أن يصل إلى الملايين، وهو ما لا تستطيع الدولة تنفيذه، فاضطر الوزير لاستبدال عقوبة الحبس بتغريم الفلاح عن كل أردب لم يسلمه مبلغا يساوي ثمن الأردب بالسعر العالمي، الذي يعادل ضعف السعر المحلي.

وتوقع ترك أن يواجه هذا الأمر عقبات في التنفيذ؛ لأن الحكومة لا تملك حصرا حقيقيا بالأرض التي تم زراعتها قمحا، والغرامة ستجعل الفلاح يحجم عن زراعة المحصول الإستراتيجي مستقبلا، لأنها ستتسبب في خسارة فادحة، فالفلاح إما أن يسلم القمح للحكومة بالسعر الذي تريده، فيجوع هو وأبناؤه ويحصّل أموالا قليلة، أو يطعم أولاده من زراعته ويكون معرضا للحبس أو الغرامة التي ستجعله يندم على زراعة القمح؛ وذلك لأن موسم القمح يواكب موسم البرسيم وهو أجدى من الناحية المادية من القمح.

وإذا استمرت الحكومة في هذه السياسة مع الفلاحين، كما يقول ترك، فسيتحول أغلب الفلاحين إلى زراعة البرسيم بدلا من القمح، مما يؤدي إلى زيادة كمية المستورد من القمح وفي حال استمرار الأزمة لعامين -كما هو متوقع- فقد تتعرض مصر "لمجاعة لم تعرفها إلا أيام الشدة المستنصرية".

وفي مقال للكاتب الصحفي عماد الدين حسين (المقرب من السلطة)، طالب الحكومة بألا تتصادم مع الفلاحين، وأن تتعامل معهم بهدوء وهي تحاول تأمين القمح المخصص للخبز المدعم، والأهم أن تفكر في إستراتيجية دائمة للتعامل مع الفلاحين شعارها الأساسي هو دعم الفلاحين والمزارعين بصورة جادة تجعلهم يقبلون على الزراعة، ولا يهربون منها، حتى لا تكتشف الحكومة أنها كانت تدعم المزارعين الأجانب على حساب أولاد البلد.

وشدد حسين على حق الدولة في تأمين احتياجاتها من القمح المخصص للخبز المدعم ويبلغ نحو 9 ملايين طن، الأمر الذي اضطرها بصورة استثنائية إلى إجراءاتها الأخيرة.