"الملحون" بالمغرب.. فن عمره قرون نظم قصائده الحرفيون والسلاطين
الوقائع الاخبارية : على خشبة مسرح البلدية بمدينة "سلا" المغربية (بجوار العاصمة الرباط)، انتظم أعضاء الفرقة الموسيقية الوطنية بقيادة الفنان محمد الوالي بلباسهم التقليدي المميز لتقديم وصلات غنائية في فن "الملحون".
وأمام حشد من المولوعين بهذا الفن الشعبي القديم، أدى الحاج محمد الملحوني -وهو واحد من مشايخ الملحون- قصائد تفاعل معها بحرارة جمهور من أجيال مختلفة ضمن فعاليات الأيام الوطنية لنزهة الملحون التي دأبت جمعية "إدريس بن المامون" للبحث والإبداع بفن الملحون في "سلا" على تنظيمها سنويا.
ويعد فن الملحون من الفنون الشعبية المغربية التي لها مريدون خاصة في المدن العتيقة، وتنظم له مهرجانات وسهرات، ويجتمع عشاقه في البيوت لإحياء جلسات خاصة بهذا الفن، الذي أورثت العائلات الأصيلة -وخاصة في المدن القديمة- عشقه وحبه لأبنائها كما أورثت الممتلكات.
يقول آدم العلوي رئيس جمعية "إدريس بن المامون" للجزيرة نت إنه لا يموت شيخ من شيوخ الملحون من دون أن يخلف في عائلته من يحمل المشعل بعده سواء كان عازفا أو منشدا أو باحثا في هذا الفن العريق.
قرون من الملحون
ووفق المصادر التاريخية فقد أطلق المغاربة اسم الملحون على نوع من أنواع الزجل المنظوم باللهجة المغربية العامية.
ويقول المؤرخ الراحل محمد الفاسي عن هذه التسمية "إنهم اشتقوا هذا اللفظ من التلحين، بمعنى أن الأصل في هذا الشعر الملحون أن ينظم ليتغنى به قبل كل شيء".
ويرجع الدارسون -وفق كتاب "معلمة المغرب"- ظهور البواكير الأولى من الشعر الملحون بالمغرب إلى العهد الموحدي في القرن الـ12، وذلك من خلال بعض ما نظمه شعراء مغاربة كابن غرلة والسلطان عبد المؤمن الموحدي وأخته رميلة وابن خبازة وابن حسون وآخرين في العهد المريني.
وفي عصر الدولة السعدية في القرن الـ16، شهد الملحون تطورا على مستوى الأوزان والبحور والأغراض، ليبلغ نهضته في العصر العلوي، وخاصة في عهد السلطان محمد الثالث.
ويقول عبد الله البكراوي عضو جمعية "إدريس بن المامون" للبحث والإبداع في فن الملحون، إن فن الملحون جزء لا يتجزأ من الهوية المغربية، وتاريخه حافل بأسماء شعراء وعازفين ومنشدين تركوا بصمتهم فيه وخلفوا إرثا فنيا غنيا للأجيال اللاحقة.
وشهدت قصيدة الملحون تطورا على مستوى بنائها، إذ تحولت من نظام "المبيت" أي الذي يقوم على البيت، إلى مكسور الجناح، وتتكون القصيدة فيه من عدة أقسام، ثم إلى المشتب والسوسي (وتتوزع فيه القصيدة إلى عدة أقسام وأشطر).
تطور الأغراض والأداء
وقد اكتسب الملحون شعبيته من كون ناظمي شعره في الغالب من عامة الشعب وليس من المثقفين والمتعلمين فقط، غير أن اللغة التي كان يكتب بها ليست لغة عامية سطحية، بل لغة راقية تدخل فيها كلمات فصيحة تنطق بالأسلوب العامي.
ونظم في الملحون بسطاء الناس من أميين وحرفيين وصناع تقليديين وأيضا أمراء وفقهاء وسلاطين.
وكان يطغى على قصائد الملحون في البداية الطابع الديني وفق ما أوضحه الدكتور عباس الجيراري عضو أكاديمية المملكة في مقال له حول "أثر الآلة على الملحون".
وبحكم التأثر بالأشعار التي كانت تصاحَب بالآلات الموسيقية، أخذ مضمون الملحون يتطور بدءا بشعر الطبيعة إلى الغزل وغيرها، وتعود أقدم النصوص المسجلة في شعر الطبيعة إلى القرن العاشر الهجري وجاء فيها:
"الورد والزهر وأغصانو وأشجار باسقا وأطيار
ايسبحوا لنعم الغني والما فقلب كل اغدير"
وتعددت بعد ذلك أغراض شعر الملحون، وقد حصرها أحد شيوخه أحمد سهوم في 10 هي "التوسلات الإلهية والمديح النبوي والوصايا الدينية والاجتماعية والربيعيات والعشاقي والترجمة والأعراض والهجاء والرثاء".
وعلى مستوى الأداء، يقول الجيراري إن الملحون كان في البداية مجرد سرد في الزوايا والمساجد، ثم أخذ يعتمد على ضبط الإيقاع باليد أو ما يسمى "التوساد"، وبعد ذلك توسل بآلة "التعريجة" (آلة ضرب موسيقية مصنوعة من الطين والجلد)، ثم تأثر بـ"الآلة" فاتسع نطاق استعمال الآلات الموسيقية فيه.
مساعي الحفاظ على الملحون
وقد تأسست جمعية إدريس بن المامون سنة 2012 وحددت ضمن أهدافها -كما أوضح للجزيرة نت عبد الله البكراوي مدير الدورة الثامنة لأيام نزهة الملحون في "سلا"- تكوين الشباب في مجال النظم والعزف، وتوثيق وتدوين شعر الملحون في سلا، وإعداد خزانة بصرية وسمعية للملحون، إلى جانب إحياء أمسيات الملحون وتنظيم مهرجان وطني سنوي وندوات وملتقيات فكرية.
ويأسف البكراوي لما تعرض له هذا الفن في العقود الأخيرة من انطفاء وتراجع الاهتمام به في الأوساط الشبابية والفنية، لذلك يرى أن تأسيس جمعيات للحفاظ عليه وتقريبه من الأجيال الجديدة والتعريف به ونشره، واجب عشاقه ومتذوقيه في مختلف المدن.
ولم تذهب جهود الجمعيات والمعاهد الموسيقية سدى، وفق ما يؤكده البكراوي؛ فعدد من الشباب المهتمين بالموسيقى يحفظون قصائد الملحون ويتعلمونه في سن مبكرة، وبعضهم عمل على تطويره واتخذه أسلوبا فنيا.
وعملت أكاديمية المملكة على حفظ تراث الملحون المغربي بجمع وتنقيح وإصدار قصائده في مؤلفات، من بينها موسوعة الملحون الصادرة في 11 جزءا، والتي تضم قصائد لمشايخ هذا الفن العريق بهدف ترسيخ حضوره ونقل القصائد من المستوى الشفاهي إلى المكتوب.
يذكر أن وزارة الثقافة المغربية أعدت ملفا متكاملا حول فن الملحون، وذلك في إطار التقدم رسميا بطلب تسجيله لدى منظمة اليونسكو، باعتباره تراثا إنسانيا لا ماديا.