"بخصوص بعض الناس" وأخواتها.. ناصر القصبي ومسرح الجدل السعودي

الوقائع الاخبارية : في "موسم جدة" الذي ما تزال فعالياته مستمرة في المدينة الساحلية السعودية، جاءت مسرحية "بخصوص بعض الناس" التي ألّفها خلف الحربي وأخرجها محمد الحملي وتزعّم أبطالها ناصر القصبي، لتثير نقاشا مجتمعيا قوامه التناقضات التي يقول القائمون على المسرحية إنها تتناول "الحياة اليومية وتحدياتها بقالب كوميدي خفيف"، بحسب التعريف المُقتضب الذي نشره الموقع الوطني للفعاليات.

المسرحية تُعرض بين 23 من الشهر الجاري وحتى الثاني من يوليو/تموز المقبل على "المسرح العربي" في "سيتي ووك"، أكبر المناطق الترفيهية في موسم جدة هذا العام، وبدا أنها تعيد الجدل الذي لطالما رافق الأعمال التي يضطلع الفنان السعودي ناصر القصبي ببطولتها.

القطار الذي تدور أحداث المسرحية فيه، لا بد أن ينعكس تنوع شخصياته على ردود أفعال مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في السعودية، بين مرحب بالعمل وناقدٍ له. وهذا مما اعتادت عليه المملكة مع كل عرض فني، سواء تعلّق بالأمر بالمسرح أو بالمسلسلات الدرامية أو بالأفلام السينمائية؛ وليس مسلسل العاصوف -الذي بُثّ جزؤه الثالث في رمضان الماضي- إلا مثالا صريحا لهذه الحالة، فقد أخذ مساحات الجدل على منصات التواصل إلى حدودها القصوى، فهناك من اعتبره ميلادا جديدا للدراما السعودية، بينما ذهب البعض حد اتهام العمل والقائمين عليه بـ"تزوير التاريخ".

مسرح القصبي.. تاريخيا
مسرحية "بخصوص بعض الناس" أعادت إلى الأذهان الثنائية التي جمعت القصبي ومؤلف العمل خلف الحربي منذ بدايات المسلسل الرمضاني الشهير "طاش ما طاش"، مرورا بمسرحية "الذيب في القليب" التي عُرضت قبل عامين، وشهدت عودة القصبي إلى خشبة المسرح بعد غياب جاوز 30 عاما، ورأى الحربي في تقديمها في موسم الرياض آنذاك تزامنا مع ما وصفها بـ"لحظة الانعتاق الاجتماعي العظيمة التي لم يتخيل أشد المتفائلين أنها ستأتي في حياته، فاكتفى بالحلم أن يراها أبناؤه يوما ما".

شرارة الحلم بمسرح محلي يُناقش قضايا المجتمع بشفافية، أطلقها ناصر القصبي في مسرحية "تحت الكراسي" التي عُرضت على مسرح "المربع" بالرياض عام 1985، وكانت من بطولة القصبي وفنانين آخرين، من بينهم رفيق بداياته ومواسم التوهج الرمضاني الفنان عبد الله السدحان، وكان سؤالها الأبرز: ما الذي سيقود إليه تفشي ظاهرة "الواسطة" في المجتمع، في وقت كانت الأجهزة الحكومية فيه تنفذ خططا طموحة لتوظيف المواطنين في وزارات الدولة، بعد أن عاد بعضهم بشهادات عُليا من جامعات أجنبية، وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، بفعل إيرادات النفط التي سعت الخطط الخمسية للحكومات السعودية المُتعاقبة إلى توظيفها لبناء البنية التحتية، وتقديم مشاريع تستوعب قُدرات الجيل الشاب.

المسرح السعودي وواقع الثمانينيات
اتساع دور الدولة في توظيف الخريجين الجدد، وبروز الموظف غير المنتج الذي لا يُسرّح إلا بقرار ملكي، حدا بالباحث الاجتماعي عبد الرحمن الشقير إلى وصف الدولة في ثمانينيات القرن الماضي بـ"دولة الموظفين"، في مقابل ثقافة الإنتاج التي مثلّها موظفو "أرامكو".

في هذه الحقبة، بدا القصبي ورفاقه منشغلين بالتغيّرات الاجتماعية والتفاوت الطبقي الذي زحف إلى المجتمع بصورة واضحة، وظهر في مساعي الزواج التي لا تُكلل بالنجاح، لتباين الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية؛ وهو ما عبّرت عنه مسرحية "أحلام سلوم" التي تناولت قصة شابٍ طموح يعيش قصة حب يكتنفها كثير من الألم بسبب تردي أوضاعه المادية.

بعد ذلك بعام، في 1986، اتخذ القصبي والمسرح السعودي خطوة إضافية في طريق نقد البيروقراطية، والتناول الإعلامي للمشاريع الكبيرة، حين عادت المجموعة نفسها التي قدمت "أحلام سلوم" إلى خشبة المسرح من باب "عويس التاسع عشر"، التي لعب القصبي فيها دور عيسى "القهوجي"، أو معدّ المشروبات في المنشأة الحكومية الذي يُكلف بمهام المدير ليومٍ واحد كان كفيلا بمعرفة أروقة الإدارة، والخطابات الجوفاء التي تُلقى في المناسبات، وتضخم صورة المديرين في المخيلة الاجتماعية.

لم ينصرم عقد الثمانينيات إلا بعد أن ترسخت صورة القصبي فناناً لا يُشق له غبار، رفقة السدحان وراشد الشمراني في مسرحية "عودة حمود ومحيميد" التي كتبت انطلاقة فنية قويّة لهذا الثلاثي، الذي قدّم شخصيات ما زال يتردد صداها في مجالس السعوديين والخليجيين ومنصاتهم الاجتماعية، مثل شخصية "أبو هلال" التي نسج تفاصيلها الشمراني باقتدار، على نحوٍ جعل منه نجماً تُستعاد "إفيهاته" المرتبطة بمبالغات الشخصية المُحتالة والمتوهِمة للبطولات. الفنان عبد الله عسيري، بدوره، برز في هذه المسرحية بشخصيةٍ جنوبية أبانت لهجةً لم يعتد عليها جمهور المناطق السعودية الأخرى.

المسرح والضغط الاجتماعي
كان على جمهور المسرح السعودي أن ينتظر 30 عاماً قبل أن يرى ناصر القصبي في مسرحية "الذيب في القليب"، التي أظهرت ضمن فريق العمل وجوها نسائية كتبت معها فصلا جديدا في مسيرة الأعمال الفنية السعودية؛ فالمسرحية، بالإضافة إلى تعبيرها عن التغيرات الاجتماعية التي شهدها المجتمع السعودي في الأعوام القليلة الماضية، كانت هي أيضا تجسيدا لهذا التغير، عبر إفساحها المجال لفنانات سعوديات رسم حضورهن واقعاً لم تعرفه بدايات المسرح السعودي على يدِ إبراهيم الحميدان، عام 1974، الذي كتب مسرحيته "طبيب بالمشعاب" متأثراً بمسرحية الفرنسي موليير "طبيب رغم أنفه"، بحسب الناقد السعودي عباس الحايك.

واللافت في تاريخ المسرح السعودي أن الكاتبة ملحة عبد الله كانت من أكثر المؤلفين كتابة للمسرح، حيث تجاوز نتاجها بين 1992-2003 أكثر من 54 نصاً، رغم حضور الفنانات السعوديات الفني البالغ الاستحياء في هذه الفترة.

واجه المسرح السعودي ضغوطاً اجتماعية عدة في بداياته، إلا أنه لم يغب، وظل حياً، بحسب الكاتب خلف الحربي، بفضل جهود فنانين آمنوا برسالته، و"حرصوا على إبقاء جذوة المسرح مشتعلة حتى لو كانت شعلتها ضئيلة جدا".