وجه آخر لغلاء الأسعار.. عندما يدفع اللبناني ثمن خدمة الاتصالات بالدولار بدل الليرة
الوقائع الاخبارية : تتفاقم الضغوط المعيشية على اللبنانيين، بفعل إجراءات تتخذها السلطات، كان آخرها رفع كلفة الاتصالات والإنترنت بما لا يقل عن 5 أضعاف، ويرى خبراء أن لبنان يتجه نحو تكريس "دولرة" مختلف الخدمات والسلع بما لا يتناسب مع الدخل القومي بالليرة اللبنانية، وهو ما ظهرت ملامحه منذ قررت الحكومة قبل أشهر رفع الدعم عن استيراد المحروقات والأدوية والسلع الغذائية الأساسية باستثناء القمح.
لكن زيادة تعرفة الاتصالات التي أثارت غضب المواطنين يترتب عليها كثير من التداعيات الاقتصادية والمعيشية، وتعيد إلى الذاكرة قصة "ضريبة الواتساب" التي كانت السلطات تنوي فرضها على اللبنانيين، قبل تراجعها بسبب الاحتجاجات الواسعة التي عمّت لبنان عشية 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ما قصة قرار وازرة الاتصالات اللبنانية؟
في مايو/أيار الماضي اتخذت وزارة الاتصالات اللبنانية قرارا قضى برفع كلفة الاتصالات بالليرة، عبر اعتماد سعر متحرك للدولار بالاتصالات، وهو سعر منصة "صيرفة" الذي يصدره مصرف لبنان (يبلغ حاليا نحو 25200 ليرة للدولار) بعد سنوات من اعتماد سعر الصرف الرسمي الثابت للاتصالات، أي 1507 ليرات للدولار، منذ إنشاء شركتي الخلوي "ألفا" (ALlfa) و"تاتش" (Touch) في عام 1995.
وجاء القرار الذي دخل موضع التنفيذ مطلع يوليو/تموز الجاري بعد شهرين من تحويل الأرصدة من الدولار إلى الليرة على السعر الرسمي (1507 ليرات)، فمن كان يملك في لبنان 100 دولار مثلا في رصيد هاتفه (150 ألف ليرة وفق سعر الصرف الرسمي) تحولت منذ مطلع يوليو/تموز الحالي إلى 6 دولارات وفق سعر منصة صيرفة.
لذا، وجد كثيرون أن اللبنانيين تعرضوا لعملية اقتطاع قسرية، كما بات جزء كبير منهم يجدون صعوبة واضحة في تغطية نفقات الاتصالات والإنترنت، علما أن الحكومة خفضت أسعار خدمات الخلوي بالدولار لكنها عمليا رفعت الأسعار بالليرة إلى أكثر من 5 أضعاف.
ويأتي ذلك على خلفية انهيار غير مسبوق يشهده لبنان منذ منتصف 2019، ويعدّ من بين الأسوأ عالميا، وأدى تدريجيا إلى خسارة الليرة أكثر من 90% من قيمتها لتبلغ بالسوق السوداء نحو 29500 ألف ليرة، وذلك ما دفع نحو 85% من السكان إلى طبقات الفقر.
موقف الوزارة
يعدّ قطاع الاتصالات تاريخيا ثاني أهم مورد لإيرادات الدولة بعد الضرائب، وكان يلقب بـ"نفط لبنان"، ويرفد الخزينة بإيرادات بالليرة اللبنانية كانت تعادل نحو 1.4 مليار دولار سنويا عبر شركتي "ألفا" و"تاتش".
وفي حديث خاص مع الجزيرة نت، يقول وزير الاتصالات جوني قرم إن عامل سعر الصرف أدى في 3 سنوات من عمر الأزمة إلى تراجع قيمة الإيرادات بنحو 20 مرة نتيجة انهيار سعر صرف العملة المحلية، وصار مدخول الشركتين لا يتجاوز 70 مليون دولار، وأكثر من نصف هذا المبلغ يذهب لتوفير المازوت لتغذية نحو 2100 محطة كهربائية للاتصالات، وتضاعفت الحاجة للمادة بفعل انقطاع الكهرباء، ومن ثم "لم يعد لدينا أموال كافية لإدارة القطاع، رغم أننا فرضنا تقشفا على مصروفنا لأكثر من النصف"، وفق قرم.
وفضلا عن الخسائر الكبيرة التي تتكبّدها الشركتان، برر وزير الاتصالات قراره بضبط عمليات الاحتكار لبطاقات الشحن التي شهدت سوقا سوداء لبيعها بقوله إن عشرات من المشتركين والمحتكرين جمعوا أرصدة على هواتفهم للاتجار بها ناهزت قيمتها 450 مليون دولار.
لكن، لماذا لم تعتمد الوزارة سعرا ثابتا بالليرة لتعرفة الاتصالات لضمان قانونيتها بدل منصة "صيرفة" للدولار التي نشأت كحالة استثنائية في لبنان بعد انهيار الليرة؟
يجيب جوني قرم أن القرار جاء بموافقة هيئة الاستشارات في وزارة العدل، مؤكدا أن المستهلك حافظ على رصيده بالليرة ومهلته الزمنية، وقال "لم يكن أمامنا سوى منصة صيرفة لأن سعرها رسمي يصدر عن مصرف لبنان ولأن السوق السوداء ليست بيد الدولة، ومصروف الشركتين بالدولار، فوجدنا صيغة توائم بين إيراداتها ونفقاتها خصوصا أنهما واجها خطر الإفلاس".
وينظر قرم إلى قرار وزارته بإيجابية، فقد خفض التسعيرة بالدولار إلى نحو الثلث عما كانت عليه قبل 2019؛ فسابقا "كانت الاتصالات في لبنان من بين الأغلى بالمنطقة، وكان معدل استهلاك الفرد شهريا يقدر بنحو 27 دولارا، ونتيجة تدهور الليرة أصبح بحدود دولار واحد في الشهر؛ هذا المبلغ لا نستطيع الاستمرار به، أما بعد تعديل التسعيرة حاليا سيصبح المعدل الشهري لاستهلاك الفرد بحدود 6 دولارات، أي أقل من معدل الاستهلاك الشهري في الأردن الذي نأخذه غالبا كمعيار للمقارنة".
وبعدما شحّت بطاقات الشحن من الأسواق، يوضح وزير الاتصالات أنها ستصبح متوفرة في كل المحال المخصصة لبيعها، بعد إلغاء البطاقات القديمة من فئتي الصغيرة (10 دولارات) والكبيرة (22 دولارا)، فقد طُرحت بطاقتان في السوق: واحدة بقيمة 4.5 دولارات مع 500 ميغابايت إنترنت وصالحة لـ35 يوما، وثانية بقيمة 7.5 دولارات وفيها 1.5 غيغابايت و30 دقيقة مكالمات مجانية وتصلح للمدة نفسها، وتُباع كل منهما وفق سعر صرف منصة صيرفة، وستصدر الشركتان يوميا لائحة أسعارها عبر حسابهما الإلكتروني.
هدر تاريخي
يعتقد كثيرون أن اللبنانيين يدفعون ثمن سوء إدارة تاريخية لقطاع الاتصالات، بفعل الصراعات والتدخلات السياسية فيه، التي حالت دون تنفيذ القرار 431 الذي صدر عام 2002، ويقضي أحد بنوده بخصخصة القطاع بفتح باب المنافسة لشركاء جدد كسرا لحصرية الشركتين المشغلتين.
وهنا، يذكّر وزير الاتصالات بأن نظام الشركتين المشغلتين كشركات لبنانية مساهمة لا يخوّلهما أخذ قروض من الدولة رغم ملكيتها لهما خلافا لبقية المؤسسات التابعة للدولة؛ وعليه فإن "الأرباح التي حققتها سابقا ليست محفوظة بالبنوك حتى تستفيد منها حاليا، بل لديها حسابات في مصارف تجارية خاصة، خلافا للمؤسسات التابعة للدولة التي لديها حسابات لدى المركزي، ويتحول الفائض بين نفقاتها التشغيلية وإيراداتها إلى خزينة الدولة، وذلك يعني أنها لا تستفيد من أرباحها السابقة".
وخلص الوزير إلى القول إن "أولويتنا في المرحلة المقبلة أن نوفر استمرار قطاع الاتصالات بأقل خسائر ممكنة، وعلى المواطنين تفهمنا".
الخصخصة وخديعة المواطنين
من جانب آخر، يرى الصحفي المتخصص بالشأن الاقتصادي إيلي الفرزلي أن اللبنانيين قبل انهيار الليرة لم يشعروا بخطورة تسعير خدمة الإنترنت بالدولار بدل الليرة أسوة بالخدمات الأخرى، واصفا أداء وزارة الاتصالات وخلفها الحكومة بغير الشفاف لدى القول إن القطاع يواجه الإفلاس إذا استمر بتسعير خدماته على 1507 ليرات.
والإشكالية وفق حديث الفرزلي للجزيرة نت "إن كان هذا القطاع يبغي تقديم خدمة للمواطنين برسوم رمزية أم يستهدف درّ الأرباح لدولة غير منتجة لم تحسن ضبط الإنفاق تاريخيا بقطاع الاتصالات كما لم تبذل أي مجهود لتحسين خدماته، لأن اللبنانيين غير قادرين على إتمام مكالمة واحدة من دون انقطاع".
ويرى الفرزلي أن اللبنانيين "يواجهون خديعة كبيرة في أكثر القطاعات حيوية وأهمية، لأن تحويل الرصيد من الدولار إلى الليرة ومن ثم إلى الدولار وفق سعر صرف غير ثابت وغير رسمي يعني مخالفة الاتفاق مع المشتركين، وتكبيد 5 ملايين لبناني ذنب عشرات المحتكرين الذين راكموا أرصدتهم بشكل قانوني ولم تتمكن وزارة الاتصالات من ضبطهم".
ووفق تحليل الفرزلي، فإن السلطات الرسمية تتطلع بقرار الاتصالات لما هو أبعد لجهة وضع القطاع على سكة الخصخصة، والحرص على فصل الشركتين بدل دمجهما ضبطا للإنفاقات التشغيلية وتحسينا للخدمة، لأن من سيستثمر بهذا القطاع "يفضل أن تكون إيراداته بالدولار بدل الليرة، وألا تكون مثقلة بالديون للمشتركين"، حسب رأيه.
أزمة حكومية
من جانبه، يجد الخبير الاقتصادي علي نور الدين أن المشكلة ليست في قرار وزارة الاتصالات، بل بالسياق الذي جاء فيه، وهو خارج أي مسار تصحيح عبر خطة شاملة من قبل الحكومة.
وقال للجزيرة نت إن زيادة أي تعرفة تكون مبررة لدى ترافقها مع تصحيح الأجور، وتوفير شبكة حماية اجتماعية، وتحديد ماهية استعمال هذه الزيادات الضريبية والرسوم بشفافية، لذا "ستصبح الاتصالات مكلفة جدا مقارنة بدخل الأسر، وسيضطر الآلاف إلى الاستغناء عن خدمتي الاتصالات والإنترنت".
ويخشى نور الدين أن تمسّ المصالح المحلية بشروط التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ويرى أن هذه الإجراءات تعكس سوء أداء الحكومة وغياب رؤية اقتصادية شاملة، "في حين تصبّ خطتها في مصلحة أصحاب رؤوس الأموال والمصارف وكبار المستثمرين، وليس في مصلحة الناس الذين سيدفعون مع الأجيال المتعاقبة ثمن هذه الأزمة".