النهب المقدس.. هل بنيت شهرة بيكاسو العالمية على أعمال أفريقية مسروقة؟

الوقائع الاخبارية : كانت أوروبا في مطلع القرن العشرين على موعد مع واحدة من أكثر مدارس الفن الحديث ثورية وإثارة للجدل. فبعد أن ظهرت الانطباعية، وأشهر لوحاتها "ليلة مليئة بالنجوم" (Starry Night) لفان غوخ، وظهرت التعبيرية وأشهر لوحاتها "الصرخة" (The Scream) لإدفارد مونك، ظهرت مدرسة انقلبت على كافة التقاليد الفنية التي كانت معروفة ومتفقا عليها حتى ذلك الوقت.

تلك المدرسة هي التكعيبية. الحركة الطليعية الأشهر في القرن العشرين، التي تُنسب إلى الرسام العالمي بابلو بيكاسو (Pablo Picasso)، الذي قدم للعالم -بالتعاون مع الرسّام الفرنسي جورج براك (Georges Braque)- واحدة من أكثر المذاهب الفنية ثورية وعُمقا؛ لدرجة أن بيكاسو يُعرف اليوم بكونه مؤسس الحركة التكعيبية.

فنون الشتات الأفريقي
بقدر ما حازت التكعيبية على شهرة عالمية واسعة، وبقدر ما حقق روادها -وعلى رأسهم بيكاسو- من نجاح غير مسبوق بفضل الفلسفة العميقة التي قامت عليها المدرسة، لا يزال تأثير الفن المسروق من الشتات الأفريقي على يد القوى الاستعمارية، الذي كان الحجر المؤسس لتلك المدرسة، غير معترف به على نطاق واسع خاصة في القارة العجوز التي نشأت فيها الحركة.

ووفق تقرير في صحيفة "غارديان" (Guardian) البريطانية، فإن بيكاسو -بعد أن بلغ من العمر 26 عاما- كان يبحث عن مصدر جديد للإلهام بعد أن قدم مئات اللوحات التي تتبع المدارس الطليعية آنذاك، مثل التعبيرية والتجريدية، وبالفعل وجد ضالته في الفن الأفريقي.

ففي أثناء زيارة بيكاسو، مع الرسام الفرنسي هنري ماتيس، صديقتهما جيرترود شتاين في منزلها بباريس، ربيع عام 1907، توقف الفنانان أمام منحوتة أفريقية كانت شتاين اشترتها للتو. وبلغ إعجاب بيكاسو بالفنون والمنحوتات الأفريقية مبلغا دفعه لزيارة متحف تروكاديرو للإثنولوجيا -الذي يعرف الآن بـ"متحف الإنسان" (Musée de l’Homme)- وهي الزيارة التي عبر عنها بيكاسو لاحقًا بقوله "تلك الزيارة كانت محورية في فني".

وعن زيارته للمتحف، قال "كل هذه الأشياء التي صنعها الناس، لغرض سحري ومقدس ولكي تعمل كوسطاء بينهم وبين القوى المعادية المجهولة المحيطة بهم، كانت محاولة منهم للتغلب على مخاوفهم من خلال إعطاء تلك المخاوف شكلا ولونا. لقد فهمت بسبب ذلك ما تعنيه اللوحات حقا. إنها ليست وسيلة للتعبير عن الجمال؛ إنها شكل من أشكال السحر الذي يفرض نفسه بيننا وبين الكون المعادي، ووسيلة للسيطرة على الأمور من خلال إعطاء مخاوفنا ورغباتنا أشكالا مرئية، وفي اليوم الذي فهمت فيه ذلك، وجدت ضالتي".

النهب المقدس
لم تكن الحروب الاستعمارية التي شنها الرجل الأبيض على القارة السمراء أو غيرها من القارات هدفها بسط النفوذ والسيطرة على كنوز تلك البلاد واستعباد أهلها ليصبحوا أيدي عاملة له فحسب، بل كان هناك نهب ممنهج للفكر والهوية كما كان تماما للثروات والكنوز. وليس من قبيل الصدفة أن متحف اللوفر، أيقونة متاحف العالم المتمدن الغربي، هو في الأصل خزانة كبرى جمع فيها نابليون بونابرت آلاف القطع الفنية المسروقة في أثناء غزوه لدول العالم كافة.

على النهج نفسه، سارت الحملات الاستعمارية كافة. فتجريد سكان البلاد المستعمَرة من هويتهم الثقافية كان لا يقل أهمية عن تجريدهم من كنوزهم وثرواتهم الطبيعية؛ لأن غياب الهوية الثقافية يضمن للمستعمِر ألا يُفكر سكان البلاد المنهوبة في أنفسهم بوصفهم كيانا خاصا منفصلا عنه له هويته وتاريخه وما يميزه.

البعد الروحي للفن الأفريقي
كانت الروحانية هي كلمة السر. صُدم الفنانون بالبعد الروحي والبساطة المختصرة وعدم التكلف الذي اكتشفوه في الأعمال الفنية الأفريقية التي وصلت أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرون. كانت تلك الأعمال ثلاثية الأبعاد تعبر عن الأغراض المرسومة أو المنحوتة من جهات مختلفة، وتستكشف بعدا روحيا غاب كليا عن الحضارة الغربية. وعلى المنوال نفسه، أتت لوحات المدرسة التكعيبية معتمدة على استخدام ألوان حارة وأشكال بدائية ورسم الأغراض والأشخاص بزوايا هندسية حادة.

ويرى الناقد الفني فيسون غونر (Fisun Güner) أن البعد الروحي ذاك هو ما أغوى الرسّام الفرنسي الشهير بول غوغان (Paul Gauguin)، الذي توفى في هايتي، للعيش في تلك المجتمعات البدائية بدافع من شعوره "بالاشمئزاز من الحضارة الغربية وعدم أصالتها وفراغها الروحي". وربما لهذا السبب، يجد زائر "متحف كواي برانلي" (Musée du Quai Branly) في باريس قاعات كاملة للمنحوتات التي نقلها الاستعمار من غرب ووسط أفريقيا، جنبا إلى جنب لوحات بيكاسو وغيره من التكعيبيين والطليعيين.

بدأ بيكاسو في جمع الأقنعة والتماثيل والآلات الموسيقية الأفريقية بعد زيارته الأولى لتروكاديرو بفترة وجيزة، وفقا لمتحف "ناشر للفنون" (Nasher Museum of Art)، حيث جمع أكثر من 100 عمل حتى وفاته. وتظهر صورة التقطها نجله كلود عام 1974، بعد عام من وفاة الفنان، حجم مجموعته الفنية الأفريقية.

وجدير بالذكر أن تبني الفن الغربي للثقافة البصرية الأفريقية التقليدية لم يكن مسالما، كما لم يكن هناك اعتراف غربي بالمساهمات التي قدمتها البلاد المُستعمَرة في الارتقاء بالفن الغربي. بالعكس، كان الفنانون الغربيون يرون أن تلك البلاد بدائية مليئة بالتصوف والسحر والروحانيات والوحشية في آن واحد. ورغم ما عدوه وحشية وبدائية، فإنهم استحوذوا على الهوية البصرية والثقافية لتلك البلاد ونسبوها لأنفسهم ومجتمعاتهم لتحقيق مكاسب فنية واجتماعية خاصة.