مسلسل "مجرم".. عالم مفتوح لحكم المشاهد الشخصي

الوقائع الاخبارية : ربما لا يذكر التلفزيون أو السينما العالمية آخر مرة شاهدنا خلالها معادلة القصص البوليسية من وجهة نظر شاعرية يستخدمها المحققون أثناء تحقيقاتهم. تساؤل "كيف يمكن كشف المجرم الحقيقي من خلال حدس ومشاعر المحقق الشخصية؟" كان المؤسسَ لصناعة مسلسل "مجرم المملكة المتحدة" (Criminal UK) الذي تم إنتاج عدة نسخ منه بعدد من لغات عالمية.

ما قصة (Criminal UK)؟
يقدم مسلسل "مجرم" الذي تقدمه خدمة نتفليكس دراما بوليسية شيّقة، في مكان واحد تقع فيه كافة الأحداث، تبلغ مدة كل حلقة فيها حوالي 45 دقيقة، تقع أحداثها بالكامل داخل غرفة استجواب حيث تستجوب وحدة تحقيق خاصة من شرطة العاصمة مشتبها به (يلعب دوره فنان مختلف كل حلقة) يواجه اتهامات بارتكاب جرائم شنيعة بدءًا بالطبع من الاعتداء الجنسي والقتل إلى تهريب مهاجرين غير شرعيين.

تبقيك الألعاب الذهنية التي يمارسها المحققون مع المشتبه بهم والعكس حائرًا حول إذا ما كانوا ارتكبوا هذه الجرائم بالفعل أم لا، ألعاب عقلية ترتكز تمامًا على مشاعر المحقق ومشاعر المتهم، يخلق هذا الجو المتوتر حالة مربكة من المشاهدة.

ما الذي يجعل منه عملا جيدا؟
لماذا يحدث هذا الارتباك؟ يستخدم المخرج هذا الارتباك بشكل درامي وتأسيسي بحيث يصبح مكمّلاً لمساحة فهم المشاهد للحلقة، وليس مجرد عامل تشويق مساعد.

تمر العديد من السيناريوهات في ذهن المشاهد على الرغم من عدم رؤيته للجريمة أو فهمه للأحداث التي أدت إليها، ولا يبقى أمامه سوى كلمات المشتبه به وسلوكه ولغة جسده للحكم إن كان مذنبا أم لا.

من بين أفضل الحلقات، من المسلسل المكون من 7 حلقات، حلقة الممثل البريطاني كيت هارينغتون، بطل مسلسل "لعبة العروش" (Game of Thrones) الذي يلعب دور وكيل عقارات متهم بالاغتصاب والممثل البريطاني – الهندي كونال نايار "راج من مسلسل" (The Big Bang Theory) الذي يلعب دور رجل أعمال مسجون يحاول التفاوض لإيجاد سبيل للإفلات من جريمة قتل ثانية ارتكبها في السجن. تربط القصص الشخصية الجانبية للمحققين، التي تحدث من وراء النافذة الزجاجية أحادية الجانب لغرفة الاستجواب، الحلقات بعضها بعضا على نحو جيد.

تقع على كاهل المشاهد هنا مساحة إضافية لاستخدام مشاعره للحكم على المذنب بالإدانة أو البراءة من كافة التهم التي تم طرحها خلال الحلقة، يخلق المكان الواحد على مدار الحلقة بعض الملل لكنه أيضًا يمكن استغلاله كعامل مساعد على عدم التشتت والتركيز في كل تفصيلة.

إلى جانب كل ذلك، يتحرك المسلسل بين جميع المحققين باستنباط مشاعرهم المجردة دون تفضيل أو تحكم لمدير على آخر، الجميع تحت سطوة مشاعرهم دون مساحة للتفوق الإداري والمشاعري هنا، الأمر الذي يمثل نقطة القوة العلمية في منطقة تأثير المديرين على النتائج العامة للإنتاج بشكل عام بهدف تحفيز الجميع سواء بشكل بوليسي أو غيره.

المساواة في العمل تجعل الإنتاج أفضل
إلى جانب الحديث السينمائي عن العمل يمكن سرد حكاية جانبية عن التعاون غير المشروط بين المديرين وزملائهم، تناولت دراسة حديثة، نشرتها مجلة الإيكونوميست، تأثير المعاملة التفضيلية التي يحظى بها بعض المديرين بهدف تحفيزهم لأداء أفضل على إنتاجية العمل، وذلك من خلال استخدام الاقتصاد السلوكي وعلم النفس.

وتتناول الدراسة تأثير التسلسل الوظيفي على التعاون داخل الفريق باستخدام تجارب لقياس ميل الفرد للمساهمة في العمل الجماعي، ووضعه أمام مواقف قد تمكنه من استغلال مجهودات الآخرين. وفي إحدى التجارب، التي تندرج ضمن الاقتصاد التجريبي، تم تقسيم المجموعة إلى مديرين وعاملين، مع تطبيق متغيرات مختلفة على العاملين مقابل المديرين وتغييرها في كل جولة. وتمت مقارنة النتائج بتجارب أخرى لم تكن فيها تفرقة في المعاملة بين المديرين وبقية الموظفين.

ماذا نستفيد من تلك التجربة؟ تثبت التجربة أن منح مزيد من المميزات لمن هم في قمة الهرم الوظيفي وزيادة العبء على مَن في أسفل الهرم أمرٌ خطيرٌ، إذ يقلل من الأداء والإنتاجية العامة للعمل.

وبالرغم من إثبات التجربة أن وجود تسلسل وظيفي يتمثل في مديرين وعاملين يزيد من التعاون وإنتاجية العمل، فإن إعطاء حوافز خاصة للمديرين يتسبب في انخفاض الأداء. فالعاملون يشعرون برغبة أقل في العطاء عندما يتم تكليفهم بمهمات لا تتناسب مع المقابل الذي يحصلون عليه، ومقارنة بما يحصل عليه المديرون من مزايا.

وكذلك تظهر التجربة أن المديرين يستفيدون من الحوافز بطرق "خبيثة" عندما لا يعلنون عن حجم ما يحصلون عليه مقابل مساهماتهم في العمل الجماعي وهو ما ينتقص من حقوق العاملين. وتبرز الدراسة أهمية أن تضع المؤسسات نظاما عادلا لمكافأة العاملين بها بهدف ارتفاع الأداء.

يقدم مسلسل "مجرم" مساحات علمية للتعاون الوظيفي كما يقدم مساحة تأويل شعوري للجميع: المحقق والمذنب والمُشاهِد على حد سواء لتصبح للجميع حرية الاختيار والحكم من خلال تجربته الشخصية.

لاقى المسلسل -الذي أطلقته نتفليكس بنسخٍ ألمانية وفرنسية وإسبانية إلى جانب البريطانية- نجاحًا كبيرًا، ولا سيما في مشاركة المُشاهد في الحكم على كل ما يراه دون أن تصبح للسيناريو سطوة الحكاية من أولها حتى النهاية.