بورصة الدولار تصدم اللبنانيين .. انهيار جنوني لليرة يفوق التوقعات

الوقائع الإخبارية: حلقة جديدة من مسلسل انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار، صدمت اللبنانيين في الأيام الأخيرة، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الواحد عتبة الـ46 ألف ليرة، وسط تنبؤات قاتمة لاسيما مع تصاعد الأزمة السياسية والفشل في انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة.

بعد 25 سنة من ثبات السعر الرسمي للدولار في لبنان، بدأ قبل ثلاثة أعوام بالارتفاع تدريجياً في السوق السوداء، حيث تشهد البلاد أزمة اقتصادية ومالية، وصفها البنك الدولي بأسوأ 3 انهيارات مالية في العصر الحديث، واللافت أنها أدت إلى ظهور عدة أسعار للدولار، منها سعر الصرف الرسمي، وسعر منصة "صيرفة" وسعر صرف دولار السوق السوداء، والسعر الخاص بالسحوبات المصرفية لودائع الدولار والدولار الجمركي.

يترقب اللبنانيون "بورصة الدولار" والسقف الذي ستصل إليه، طارحين علامات استفهام حول الأسباب التي أدت إلى هذا الصعود الكبير، الذي يصفه الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو بـ "الارتفاع الجنوني" مؤكداً أنه "جاء عكس التوقعات السوقية".

يشرح قانصو في حديث لموقع "الحرة" أن "التوقعات السوقية كانت تندرج في إطار بعض التراجع أو بالحدّ الأدنى استقراراً في سعر صرف الدولار في السوق السوداء، كوننا في فترة الأعياد حيث يدخل الدولار إلى السوق عبر المغتربين الوافدين إلى البلاد أو حتى عبر المقيمين، كما أن موظفي القطاع العام قبضوا هذا الشهر بين راتبين وثلاثة رواتب بالعملة الصعبة عبر منصة صيرفة".

50 ألف ليرة؟
تفلت سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ناجم كما يقول قانصو "عن عمليات شرائه سواء من قبل بعض المضاربين أو تجار العملة في ظلّ تهريب الدولارات إلى سوريا والشح الكبير في هذه العملة، أو من عمليات شراء الدولار من قبل المصرف المركزي الذي اعتاد منذ ما يقارب العامين القيام بعمليات شراء منظّمة للدولار من السوق السوداء، ما يؤدي إلى ارتفاع سعره، ليعود ويضخه في السوق في محاولة منه للجم سعره الذي ساهم هو بارتفاعه".

هذه السياسة العوجاء، كما يقول قانصو "لا تساهم سوى في خفض سعر صرف دولار السوق السوداء إلى مستويات أعلى من المستويات التي سجلها سابقاً ليعود ويرتفع بعدها إلى مستويات قياسية جديدة"، لذلك لا يستبعد "أن نشهد في الأيام القادمة بعض التراجع في سعر الصرف نتيجة توقف مصرف لبنان عن شراء الدولار من شركات التحاويل والصرافة، وليس من جرّاء الفائض في عرض أو بيع الدولار من قبله، ولكن مفاعيل هذه الإجراءات لن تطول، كونها حلول ظرفية لا جذرية".

من جانبه يرى خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي أن "قانون الموازنة العامة لسنة 2022 أسس لواقع نقدي جديد دفع إلى هذا الارتفاع بسعر صرف الدولار بسبب جهل أو تجاهل مكونات الطبقة السياسية الحاكمة"، رافضاً وصف هذا الارتفاع بالجنوني كما يشير البعض، "فهو ارتفاع متوقع من قبل السلطة النقدية وتحت السيطرة، ترك لتفادي ارتفاعٍ جنونيٍ بأسعار السلع والمواد الاستهلاكية".

يضيف "ستستكمل التداعيات السلبية للدولار الجمركي الذي تم تحديده في الموازنة بـ 15 ألف ليرة وبدأ تطبيقه في شهر ديسمبر، وسيزيد الطين بلة رفع سعر صرف السحوبات الاستثنائية من الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية إلى 15 الف ابتداء من شهر فبراير القادم، كما بشرنا حاكم مصرف لبنان في إحدى إطلالاته الإعلامية، حيث ستشهد اسواق الصرف كما يشرح "تقلبات بمنحى تصاعدي للوصول إلى سعر صرف جديد، ربما 50 ألف ليرة للدولار الواحد مع نهاية الفصل الأول من السنة المقبلة 2023، وسيتجه دولار صيرفة ببطء نحو الـ 35000 ليرة، إذا ما لم تقر السلطة السياسية الإصلاحات المطلوبة وتبدأ بتنفيذها".

الأرضية الاقتصادية تتحضر كما يقول فحيلي لموقع "الحرة" "لسعر الصرف الجديد بإنتاج وإخراج مستوردو المواد الغذائية وتجار المال (أي الصيارفة الذين يصطادون الدولار الأبيض للتداول وجني الأرباح السوداء) والمضاربون والمحتكرون".

كما ان إصرار القطاع الخاص على التمسك بدعم السلطة الفاسدة والاستفادة منها شكّل عاملاً أساسياً كما يشير خبير المخاطر المصرفية "لوصول سعر صرف الدولار والقدرة الشرائية على ما هي عليه اليوم"، ويقول "الرسوم والضرائب تحدد وتدفع على القيمة الاقتصادية الحقيقية والفعلية للنشاط الاقتصادي سواء كان هذا النشاط استيراد، تصدير، عمالة (أي رواتب وأجور)، والتمسك بدولار الـ 1500 ليرة، او حتى الـ 15000 ليرة، له وجه واحد وهو التمسك بطلب دعم خزينة الدولة من جيب المواطن".

ويشرح "منذ سنتين يمسك جزء كبير من مكونات القطاع الخاص بالدعم العشوائي للاستيراد، متحصناً بالمحافظة على مصلحة المستهلك وكلنا نعلم بأن المتضرر الأكبر من هذا الدعم كان المواطن".

أما الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة فيعتبر أن "السبب الرئيسي لارتفاع سعر صرف الدولار، هو الطلب الكبير على الدولار في ظل تراجع العرض" شارحاً "يعود الطلب على الدولار إلى الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي غير المطمئن، ما يدفع المواطنين إلى حماية أنفسهم من خلال شرائه، إضافة إلى الارتفاع الكبير في أسعار السلع، في وقت يحرص المواطنون على صرف الدولار "بالقطارة" لشراء حاجياتهم لا بل باتوا يشترونها مباشرة بالعملة الخضراء، أما مصرف لبنان فبالكاد يتمكّن من تأمين الدولارات لدعم الأدوية والفيول للكهرباء"، مشدداً في حديث لموقع "الحرة" على أنه "لا سقف لارتفاع الدولار".

مسار شائك
أي خطوات استباقية للجم سعر الصرف ستتبدّد مفاعيلها سريعاً كما يشير قانصو "إذا لم تترافق مع خطوات إصلاحية جريئة وجدّية تصحّح الاختلالات البنيوية الاقتصادية المتحكّمة في مسار سعر الصرف واستدامته في المدى المتوسط والطويل"، ويشدد " في ظلّ لهيب الاستحقاقات الاقتصادية، يتجه لبنان في المدى المنظور نحو مسار شائك، لاسيما في ظل الفراغ الحكومي والرئاسي والانقسام العامودي النيابي الحاد، وهو ما سيكون بمثابة انتحار جماعي فيما يخصّ الأوضاع المالية والنقدية وتحديداً سعر صرف الدولار".

مدّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اليوم الأربعاء العمل بالتعميم 161 حتى نهاية شهر يناير 2023، والمتعلق بالإجراءات الاستثنائية للسحوبات النقدية، ما أدى إلى تراجع سعر الصرف قليلاً قبل أن يعاود الصعود مجدداً، لكن قانصو يشير إلى تضاؤل فعالية منصّة صيرفة وفق التعميم 161، وذلك "نظراً إلى الشحّ الحادّ في احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية، حتى وإن تمّ التمديد للتعميم 161 على الورق والقلم، سيبقى سعر الصرف يشهد تقلبات".

ما يحصل يؤسس كما يقول فحيلي "لتجفيف القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود، والمتضرر الأكبر هو موظف القطاع العام، يساهم في ذلك "غياب الرقابة من قبل الوزارات المعنية، وغياب الرقابة الذاتية من قبل مكونات القطاع الخاص على المواد والأسعار وتوفر السلع في الأسواق، الامر الذي يقف وراء حالة الهلع، يساعد في ذلك سيناريوهات الرعب التي تنشرها الصحافة المتخصصة، وكل ذلك في ظل غياب القضاء".

سبق أن أشارت "الإسكوا" إلى أن الفقر تفاقم في لبنان حتى طال 82 بالمئة من السكان، وبأن هذا البلد سجّل أعلى مستويات للتضخم في أسعار السلع والمواد الغذائية في العالم، ورغم ذلك لا يزال الخلاف بين الأطراف المعنية الرئيسية حول كيفية توزيع الخسائر المالية يمثل كما ورد في تقرير للبنك الدولي "العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق بشأن خطة إصلاح شاملة لإنقاذ البلاد. ومن المرجح أن يؤدي الفراغ السياسي غير المسبوق إلى زيادة تأخير التوصل لأي اتفاق بشأن حل الأزمة وإقرار الإصلاحات الضرورية، مما يعمق محنة الشعب اللبناني".

وقال المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي، جان-كريستوف كاريه "‫إن عمق الأزمة واستمرارها يقوضان قدرة لبنان على النمو، إذ يجري استنفاد رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والمؤسسي والبيئي بسرعة وعلى نحو قد يتعذر إصلاحه. كما دعونا مرارا وتكرارا، على لبنان اعتماد حل منصف وشامل على وجه السرعة يعيد الاستقرار للقطاع المالي ويضع الاقتصاد على مسار التعافي".

يمكن للسلطة النقدية أن تتدخل كما يقول فحيلي للجم ارتفاع سعر صرف الدولار "إلا ان هذا التدخل مكلف جداً، حيث سبق ان أقدمت على ذلك عدة مرات، لكن انخفاض سعر صرف الدولار كان ظرفياً، لهذا السبب توقفت عن اتخاذ هذه الخطوة، حيث بات هدفها البحث عن كيفية تأمين استقرار سعر صرف الدولار وأسعار السلع الاستهلاكية وان كان على سعر مرتفع، وهذا أفضل بكثير من تذبذب الأسعار".

أما حبيقة فيعتبر أن لجم "الدولار" يتطلب "ازدياد عرضه في السوق وتراجع الطلب عليه، وهذا ما يحتاج الى حل سياسي، كون المشكلة الأساسية في لبنان سياسية"، في حين يرى قانصو أن "الحل الوحيد يكمن في انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تضع برنامج إنقاذ شاملة تثبت من خلاله المساعي الإصلاحية المطروحة، وتؤسس لمرحلة جديدة تطوي صفحة الانهيار الكبير".