{clean_title}

في غزة.. الواجب الإنساني لأطباء ومسعفين يعلو على أوجاع صامتة يعيشونها

الوقائع الاخبارية: تحت أصوات القصف والحرب والدمار، تتعالى أصوات الإنسانية من أطباء ومسعفين ومراسلين صحفيين، يواصلون عملهم رغم كل الصعاب، ليقدموا المساعدة لمن هم في أمس الحاجة إليها. 

في أماكن باتت مليئة بالجثث والجرحى تحت الأنقاض، يخرج الأطباء والمسعفون بحثا عن المصابين، يعملون في ظروف صعبة للغاية، ويواجهون الموت في كل لحظة.

هم أيضا جزء أساسي من حكايات الحرب المؤلمة؛ فوسط معالجة المصابين والجرحى في المستشفيات، يتفاجأون أمام أعينهم بأفراد من عائلاتهم على أسرة سيارات الإسعاف إما شهداء أو جرحى، ليتضاعف حجم الألم والوجع، ومع ذلك يبقون مستمرين في تقديم واجبهم الإنساني قبل دفن أحبائهم.

تقف الطواقم الطبية لتطبب الجراح وتوقف النزيف وتنقذ أرواحا كتبت لها الحياة من جديد.
القهر في كل زاوية هناك وأصوات تختنق بالدموع تروي معاناة شعب يناضل لحماية أرضه، الكل هناك مجروح لم يسلم أحد منهم، لكنهم مع ذلك صامدون ثابتون يحملون روحهم على أكفهم من أجل أهلهم ومهنتهم الإنسانية، فهذه المهن بالذات ليس فيها مجال للتفكير أو الخوف.

جرائم وحشية شنيعة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة وما يزال إلى اليوم يبيد ويقتل عائلات بأكملها. مشاهد كثيرة من الميدان توثق إجرامهم وإصرارهم على كتم صوت الحقيقة، وذلك من خلال استهدافهم الصحفيين، كما حدث مع عائلة الزميل وائل الدحدوح، عندما حاولوا إسكاته بقتل 4 أفراد من عائلته، وبدلا من أن ينهار أو يضعف بقي قويا على وجعه وحزنه، فبعد دفنه لهم، عاد ليستأنف عمله في الميدان ويواصل تغطية ما يجري على الأرض بشفافية رغم كل شيء.

هذه الحرب الشرسة تخطت كل القوانين الدولية والإنسانية، فهناك أيضا عشرات الصحفيين الذين قضوا شهداء الواجب دفاعا عن صوت الحق.

أوجاع صامتة يختبرها كل من على الأرض في غزة، وخاصة كل من لهم علاقة مباشرة بالميدان، لذلك يختارون مجبرين أن يؤجلوا أحزانهم لأن الإنسانية في هذه الأوضاع العصيبة هي سيدة الموقف في مواساة الجرحى والتخفيف عنهم، رغم أن الوجع واحد والفقد طال الكبير والصغير دون رحمة، والمآسي ستظل عالقة بالذاكرة لسنوات طويلة وستظل مشاهد الدماء تحفر بصمت بالروح.

ويرى خبراء ومختصون، أن من عايشوا الحرب في غزة سيواجهون مشكلات نفسية كبيرة من أرق وكوابيس وصدمات نفسية واكتئاب، لذلك هم بحاجة بعد انتهاء الأحداث إلى مرحلة طويلة من التعافي النفسي التي قد تمتد لسنوات.

وفي هذا الخصوص، يرى الاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، أن الأطباء والمسعفين والمراسلين الصحفيين في الميدان أشخاص ينتمون لمهن إنسانية قائمة على التضحية بالوقت والجهد والأعصاب من أجل خدمة الإنسان والإنسانية، ففي الحروب هؤلاء الأشخاص بالذات يقع عليهم عبء كبير لكونهم البلسم والمداوي للجرحى والموجوعين، فهم المحور الأساسي في مثل هذه الأزمات والظروف الصعبة يطببون الجراح ويسكنون الأوجاع وينقلون الحقيقة كما هي بالصوت والصورة من قلب الميدان.

هم وسط القتل والتشريد والقصف المتواصل يكبتون مشاعرهم وأحزانهم ويقفون بصلابة لتأدية واجبهم الإنساني على أكمل وجه، وغالبا ما يتحملون فوق طاقتهم، بل ويضحون بأنفسهم من أجل الأرض والكرامة، فليس هناك في غزة أحد لم يفقد أخا أو أبا أو ابنا أو أختا أو زوجة أو قريبا، الجميع ينزفون ألما على أحبتهم وبيوتهم، لكن ما يواسيهم هو أن الوطن أغلى من كل شيء.

ويذهب مطارنة، إلى أن عملهم المتواصل ليل نهار ومعايشتهم الأحداث لحظة بلحظة ومخاطرتهم بأنفسهم من أجل أهلهم وشعبهم، كل ذلك يجعل منهم أبطالا يؤمنون بقضيتهم وبحقهم بالأرض، فما يفعلونه على أرض الواقع دليل قوة وصمود.
ويلفت إلى أن العاملين في مثل هذه المهن الإنسانية يحترقون نفسيا بسبب تعرضهم المباشر لمشاهد الدماء ومعالجة الجرحى، كما أنهم مسؤولون عن إنقاذ حياة لكل مصاب وجريح، رغم أنهم قد يعجزون في بعض الأحيان عن إنقاذ الكثيرين، ومنهم من يموت بين يديهم.

ووفق مطارنة، قوة هؤلاء الأشخاص وثباتهم يأتيان من إيمانهم بالله وبقضيتهم وواجبهم الإنساني وإحساسهم بالمسؤولية تجاه وطنهم وأمتهم.

وبحسب مطارنة، فإن العاملين في المهن الإنسانية النبيلة، كالطب والإعلام والدفاع المدني وغيرها، لا يجوز المساس بهم، وحمايتهم واجبة في كل المواثيق والقوانين والأعراف الدولية، وتعرضهم للقتل، كما يحدث اليوم في غزة، يعد جريمة إنسانية ودولية يعاقب عليها القانون.

وينوه إلى أن القوة والصبر وشعور المسؤولية الذي أوجده الله فيهم، هي الأمور التي تدفعهم لتحمل كل ذلك التعب، لذلك هم بحاجة للمساندة والدعم النفسي ليتجاوزوا كل ما اختبروه في الميدان من أحداث مؤلمة أنهكتهم جسديا ونفسيا.

وتشير خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم، إلى أن المسعفين والأطباء والمراسلين في غزة يقومون بوظائف ومهام تفوق الحد الطبيعي أو الممكن لأي شخص أو إنسان يمارس تلك المهام، يعيشون وضعا استثنائيا جداً من الدرجة الخاصة لتلك الوظائف.

إلى ذلك، يُطلب منهم مهام وقدرات جسدية وذهنية وشعورية تتعدى الحد الطبيعي للقدرة الإنسانية، وذلك بسبب حجم الدمار والموت والقتل والألم والوجع والدماء التي يشاهدونها كل يوم.

والمحزن في كل ذلك، وفق إبراهيم، أنه لا وقت لديهم للتوقف أو التعب أو الانهيار، يحملون أجسادهم وقلوبهم وأرواحهم بطاقة قد تكون انتهت أو نفدت منذ أيام، إلا أنهم رغم ذلك مستمرون وصامدون.

هذه الطاقة مستمدة من حبهم لوطنهم وأبناء شعبهم وإخلاصهم لعملهم، أن تكون فلسطينيا يعني أن تكون استثنائيا مهما كانت مهنتك أو طبيعة عملك، وهذا واقع وحقيقة، فما بالكم بهذه الظروف الصعبة التي يعيشها قطاع غزة.

خلف هذا الصمود يعيشون صدمات نفسية كبيرة ومؤلمة، ينتقلون من دائرة الشعور إلى دائرة اللاشعور، ومن دائرة الوعي إلى دائرة اللاوعي. يكبتون ألمهم وغيظهم ويكبتون مشاعرهم الإنسانية الحقيقية، فلا يستطيعون الصراخ أو البكاء أو الانهيار، يطلب منهم إنقاذ الآخرين ومداواة جراحهم.

وتشير إبراهيم إلى أن الكبت هو إحدى آليات الدفاع التي يستخدمونها للتخلص من القلق والتوتر الذي قد يعيق عملهم، فهم يتعرضون كل يوم لصدمات نفسية قوية، وعاجزون عن فهم مشاعرهم، إنهم مجبرون على التأقلم مع الضغط النفسي الناجم عن الصدمة.

يتطلب ذلك، وفق إبراهيم، حاجة ماسة بعد توقف الأحداث إلى مرحلة طويلة من التعافي النفسي، قد تمتد لأسابيع أو أشهر أو حتى سنوات، لأن ما رأوه وواجهوه أثناء قيامهم بعملهم قاس ومؤلم قد يسبب لهم الأرق والكوابيس والاكتئاب، فهم بحاجة إلى المساندة والمساعدة النفسية والاجتماعية من المحيطين والمقربين منهم، هم بحاجة إلى الاعتناء بأنفسهم لتجاوز كل ما مروا به. ورغم كل ذلك، يجب أن نفخر بهم وأن يكونوا فخورين بأنفسهم بأنهم أدوا الأمانة على أكمل وجه، وإن انتهت هذه الحرب بالنصر بإذن الله، فإن جزءا كبيرا من التعب والألم سيزول، وسيشعرون أنهم بأفضل حال رغم كل ما مروا به