ياسر عرفات...وقصة الـ قبر المؤقت على الماء!



الوقائع الإخبارية : آمن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن الدولة الأردنية وجميع ملوكها، لم يتوانوا لحظة عن دعم القدس ومقدساتها.

ويعد عرفات من أشد المؤمنين بأن الهاشميين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل نصرتها ودعم أهلها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وغطرسته ومخططاته التهويدية المتربصة بالقدس والمسجد الأقصى.

دفع ذلك الإيمان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي يحظى بشعبية جارفة في أوساط الشعب الفلسطيني وفي العالم أجمع لأن يبقي حق الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس بشكل شفوي للملك الراحل الحسين بن طلال رحمه الله تعالى رغم فك الارتباط مع الضفة الغربية إداريا وقانونيا التي تم بطلب من عرفات في العام 1988، وهي الوصاية التي كانت في الأصل مستمرة منذ العام 1924، حين بايع مسؤولون فلسطينيون وعرب الشريف الهاشمي الحسين بن علي على ذلك.

وبقي الحال على هذا الأمر حتى نهاية آذار من العام 2013 عندما وقع اتفاق تاريخي بين الملك عبد الله الثاني ابن الحسين والرئيس الفلسطيني محمود عباس في العاصمة الأردنية عمان، أعيد فيه التأكيد على الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة، وأن جلالته هو صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس، وله الحق في بذل جميع الجهود القانونية للحفاظ عليها، خصوصا "الأقصى"، المعرف في الاتفاقية على أنه كامل الحرم القدسي الشريف.

وظل تحرير القدس ومقدساتها حلما يراود حياة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي اشتهر بكوفيته (غطاء على الرأس) وبزته العسكرية ذات اللون الكاكي، إلى أن فارق الحياة عن عمر ناهز 75 عاما.

ولفظ محمد عبد الرؤوف القدوة الحسيني، الذي عرف بإسم ياسر عرفات وبكنية أبو عمار أنفاسه الأخيرة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2004 في مستشفى بيرسي العسكري في الجمهورية الفرنسية، وسط شكوك عديدة حول اغتياله عن طريق السم، والتخلص بذلك من أحد أبرز شخصيات الصراع العربي الإسرائيلي المحورية، التي ارتبط اسمها بالقدس والقضية الفلسطينية طوال العقود الماضية.

ويتهم الفلسطينيون إسرائيل بقتل عرفات بواسطة "السُم" حيث شكلت القيادة الفلسطينية لجنة تحقيق رسمية في ملابسات وفاته.

ولا تزال كلمات "الختيار" التي لم يمل من ترديدها أمام وسائل الإعلام حاضرة حتى الآن: "سيرفع شبل من أشبالنا، أو زهرة من زهراتنا، علم فلسطين، فوق أسوار القدس، ومآذن القدس، وكنائس القدس، القدس عاصمة دولة فلسطين، شاء من شاء، وأبى من أبى".

لتخسر القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية في رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات رمزا من رموز النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأحد أهم المدافعين عنها في جميع المحافل الدولية والعربية.

قبر مؤقت على الماء
أوصى الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن يدفن في القدس المحتلة التي تفتحت عيناه فيها، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي رفض تنفيذ الوصية، فشيد له رفاقه قبرا مؤقتا على الماء داخل مقر المقاطعة التي حوصر فيها، كناية عن عدم الاستقرار في هذا المكان، وتمهيدا لنقل الجثمان في المستقبل إلى القدس بعد تحريرها تنفيذا للوصية.

وشيد ضريح عرفات داخل مبنى على شكل مكعب طول كل من أضلاعه 11 متراً، ويرمز للحادي عشر من نوفمبر، كناية عن اليوم الذي توفي فيه، فيما بنيت جدران الضريح الخارجية والداخلية من الحجر القدسي ومن الزجاج الشفاف التي تضاء بواسطة 24 كشافاً.

ونقشت آيات من القرآن الكريم على الجزء الأعلى من الجهات الأربع لحائط الضريح الذي صممه المهندس المعماري الفلسطيني البارز والراحل جعفر طوقان الذي تعمد في تصميمه أن يحاط الضريح من 3 جهات ببحيرة مائية صغيرة تبلغ مساحتها 603 أمتار مربعة، تتلون بألوان قوس قزح كل مساء.

إلى جانب الضريح مصلى تبلغ مساحته 391 متراً مربعاً وارتفاعه من الداخل 8 أمتار وتحيط به منطقة خضراء، ونقشت كذلك على جدرانه الخارجية آيات قرآنية كريمة.

أيضا شيدت إلى جانب الضريح والمصلى منارة تبلغ مساحتها 9 أمتار مربعة فيما يبلغ ارتفاعها 30 متراً، وبحكم ارتفاع موقع الضريح فإن أعلى نقطة من المنارة ترتفع عن سطح البحر 900 متر ومتر واحد وينطلق من قمة المنارة شعاع من الليزر في اتجاه مدينة القدس المحتلة.

حصار الرئيس
اتهم الاحتلال الإسرائيلي ياسر عرفات، بالتزامن مع اندلاع انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية)، في سبتمبر من العام 2000، بالتحريض على أعمال العنف.

وقررت حكومة الاحتلال الإسرائيلي حينئذ برئاسة آرئيل شارون في الثالث من شهر كانون الأول ديسمبر من العام 2001، فرض حصار على الرئيس الفلسطيني عرفات في مبنى مقر الرئاسة برام الله؛ فمنعته من التحرك والانتقال حتى داخل الأراضي الفلسطينية بين مدنها وبلداتها لمتابعتها وتفقد أحوال شعبه.

اشتد الخناق على الرئيس الفلسطيني المحاصر، فاتخذ من الطابق السفلي من مبنى المقاطعة وهو أقرب إلى قبو مقرا له ولإجتماعاته وأيضا لاستقبال ضيوفه الذين تمكنوا من الوصول إليه خلال حصاره في الاجتياح الإسرائيلي الأول لمدينة رام الله وحتى 29 آذار من العام 2004 أي قبيل مرضه ثم رحيله إلى العلاج في فرنسا.

وتجد رائحة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في كل ناحية من الطابق الذي فيه مدة 38 شهرا، داخل مقر المقاطعة التي تسببت قذائف المدفعية الإسرائيلية بتدمير معظم أركانها، في مدينة رام الله بالضفة الغربية في دولة فلسطين المحتلة في 25 آذار 2002.

طابق الحصار
يضم طابق الحصار غرفة نوم صغيرة جدا جد، وسرير صغير وغطاء بسيط جدا، وتلفاز صندوقي قديم معلق على الحائط عليه صورة ابنته الوحيدة زهوة بالإضافة إلى عدد من الكوفيات و 6 بدلات عسكرية باللون الكاكي معلقة داخل خزانة صغيرة ذات درفتين.

في طابق الحصار أيضا منامات الحرس الرئاسي، والذي ما زال فراشهم على هيئته الأخيرة، وأسلحة "كلاشنكوف" بجانب أسرّتهم، فيما قام الحرس باغلاق الشبابيك بواسطة أكياس التراب لحماية الرئيس المحاصر من نير الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.

في غرفة مجاورة من طابق الحصار يكمن مكتب متواضع جدا استخدمه أبو عمار نحو 3 سنوات تقريبا وتوجد عليه حتى الآن آخر الملفات التي كان يطالعها.

على ذلك المكتب الطويل أيضا ما تزال نظارته السميكة وشموع استعان بها الزعيم الفلسطيني عند قطع الكهرباء في حصاره الطويل حتى مغادرته مقر الرئاسة في رحلته الأخيرة للعلاج في فرنسا نهاية أكتوبر من العام 2004.

في طابق الحصار أيضا غرفة السنترال وهي أيضا صغيرة جدا وفيها فاكس وهاتف أرضي ودفتر تلفونات، دونت عليه أرقام عدد من الصحفيين وأرقام عدد الفضائيات، أبرزها قناة الجزيرة الفضائية.

أما المطبخ فهو صغير جدا جدا ومتصل بدورة مياه أصغر وقد ظلت الأدوات المستخدمة في المطبخ ودورة المياه على حالها حتى الساعة، ومن أبرزها "طشت" أو "لجن" وهو وعاء بشكل عرضي كان يستخدمه ياسر عرفات لغسل ملابسه خلال فترة الحصار الطويلة.

متحف رئاسي ورسائل ثورية
حول الجزء من الطابق الذي حوصر فيه ياسر عرفات الذي نجا من القصف الإسرائيلي الذي استهدف محيطه بالكامل ودمر معظم مقر الرئاسة أثناء حصار دبابات الاحتلال لياسر عرفات نهاية مارس من العام 2002 إلى متحف.

وقام الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بافتتاح متحف الشهيد ياسر عرفات في مقر المقاطعة برام الله، بحضور قيادات فلسطينية وعربية ودولية أبرزهم أمين عام جامعة الدول العربية حينئذ أحمد أبو الغيط في العام 2016 .

وصمم المتحف المهندس المعماري الفلسطيني البارز الراحل جعفر طوقان، حيث تم تشيده على أرض تبلغ مساحتها ألفاً وثلاثمئة وخمسين متراً مربعاً بمساحة بناء كلية تبلغ حوالي ألفين وستمئة متراً مربعاً، ليتم كسوة المتحف بنفس الحجر الفلسطيني الذي كُسِيَ به الضريح، والمسجد، والمنارة، وجزء كبير من الساحات الخارجية.

ويتشكل المتحف 4 مسارات مشي صاعدة، ويلي الممشى الأخير جسر يربط بين مبنى المتحف الجديد ومبنى المقاطعة التاريخي، الذي كان مقرا للرئاسة الفلسطينية، وأيضاً مقر إقامة ومكتب الزعيم الفلسطيني الراحل الذي ظل فيه ياسر عرفات مدة لفترة أربعة وثلاثين شهراً تحت حصار قوات الاحتلال الاسرائيلي.

ويلخص هذا المتحف الذاكرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة من خلال توثيق مسيرة وحياة الرئيس ياسر عرفات حياته بطريقة مؤثرة وجذابة.

ويعرض في المتحف مجموعة من ممتلكات الرئيس عرفات، من بينها نظاراته الشمسية الشهيرة التي ارتداها وهو يلقي خطابه في الأمم المتحدة في عام 1974، وعدد من الكوفيات الشهيرة، ومسدسه، والصور الفوتوغرافية، والمواد الصوتية.

كما يستذكر المتحف 100 عام من التاريخ الفلسطيني، بما في ذلك (النكبة) وهي الفترة التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل عام 1948 وما بعدها.

وتكمن مهمة القائمين على المتحف ضمان أن يكون مؤسسة رائدة وعصرية ومنارة للمعرفة والثقافة الوطنية، ونموذجاً لمؤسسة ثقافية منفتحة قادرة على إدارة حوار ذكي و فعال مع جمهورها، وتعتمد أحدث الوسائل والأساليب لحفظ وأرشفة وعرض موروث ياسر عرفات، ونضال الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
ويقدم المتحف لأبناء الشعب الفلسطيني وللعالم، رواية الحركة الوطنية الفلسطينية، من خلال سيرة ياسر عرفات (أبو عمار) القائد التاريخي للشعب الفلسطيني بصورة مؤثرة، وبما يخلق فضاءً ثقافياً تعليمياً حيوياً. والمتحف من خلال مقتنياته، ومعروضاته، وبرامجه، ملتقى يجسّر بين الماضي والحاضر بصيغة تفاعلية عبر ما يقدمه وما يوحي به من أفكار ورؤى تهب تلك المعروضات والمقتنيات المتحفية حياة جديدة ودائمة، وهو في تكامل مع ضريح القائد الشهيد ومع المسجد، ومزاراً يسهم في صيانة وديمومة إرث ياسر عرفات، يؤمه الفلسطينيون وغيرهم من شعوب العالم ليشاهدوا، ويستمعوا، ويتفاعلوا مع حكاية شعب وسيرة قائد.

ويهدف المتحف إلى الحفاظ الأمين على إرث ياسر عرفات، وسيرته بموقعها المركزي الحاسم في التاريخ الفلسطيني المعاصر، وأن ينجح المتحف في أن يوصل الى رواده منظومة القيم والمفاهيم التي آمن بها أبو عمار وناضل من أجلها واستشهد في سبيلها.

كما يهدف إلى عرض موروث ياسر عرفات، والمحطات الرئيسية في رحلة حياته كإنسان، وقائد، ورمز للنضال الفلسطيني، وتقاطعها مع الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ليصبح المتحف مكاناً لحماية الذاكرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة لكي تستفيد الأجيال الحالية ونقلها أيضا للأجيال القادمة.

ومن أهداف المتحف أيضا دعم القيم الوطنية والديمقراطية للحركة الوطنية الفلسطينية، التي تأسست على مفاهيم الحرية والمقاومة والعدالة والسلام ونشر الثقافة الوطنية المتأسسة على قيم الحق، والحرية، والمساواة، والانفتاح، والتنوير، وقبول الآخر والتوعية بها.

إضافة إلى تمكين الجمهور على مختلف مشاربه وتوجهاته السياسية من استكشاف التطورات والتعقيدات السياسية التي أحاطت بالقضية الفلسطينية ورحلة البحث عن الحرية طوال فترة مئة عام.
رئيس ثائر
ولد "محمد ياسر" عبد الرؤوف عرفات القدوة الذي إشتهر لاحقاً بإسم ياسر عرفات في القدس يوم الرابع من آب 1929، ليكون ترتيبه السادس في أسرة الأب عبد الرؤوف داوود عرفات القدوة، والأم زهوة سليم خليل أبو السعود، وذلك في منزل في الزاوية الفخرية؛ زاوية آل أبو السعود في الجهة الجنوبية الغربية من الحرم القدسي الشريف.

نشأ الراحل ياسر عرفات في أجواء أسرية حميمة برعاية والده الذي كان يعمل في التجارة متنقلاً بين القدس وغزة.

وعاش طفولته المبكرة ليشهد في القدس إرهاصات وبدايات ثورة 1936، وترعرع داخل وسط يعج بالمناضلين الوطنيين، الأمر الذي أثر عليه كثيراً، حتى أن معظم ألعابه كانت تشتمل على بنادق خشبية وتمثيلا لجنود وضباط، كما قال شقيقه فتحي، الذي يضيف أن ياسر كان يقول له "تعال نلعب لعبة تحرير فلسطين".

وفي القدس تفتحت عيناه على هذه المدينة المحافظة، التي تعبق بالتاريخ وتعج بالقداسة في كل مكان فيها وتعرف فيها، لاحقاً، إلى الحاج أمين الحسيني عن طريق الشيخ حسن أبو السعود.

وطالما تعرّض عرفات لعمليات اغتيال في مناطق مختلفة وكان من أشهرها عملية حمام الشط في تونس، حيث هدمت الطائرات الإسرائيلية، في أكتوبر 1985، مبنى منظمة التحرير؛ ولكنه نجا واستشهد العديد من أبناء فلسطين في هذه العملية، إلى أن توفي في فرنسا عن طريق "السم"، آملا في أن يدفن في القدس مدينة السلام التي عشقها حتى الرمق الأخير.