الانتقال الكبير": الأردن يمضي إلى المستقبل بإرادة حرة

الوقائع الاخبارية:تكشف تجارب القادة الذين يتجهون إلى صناعة مستقبل بلدانهم وبناء نهضتها، عن قدراتهم في التمكن من ترسيم الحدود بين لحظتين فاصلتين:

راهنة ومقبلة. تلك التي تتجلى فيها برهة الانتقال من زمن إلى آخر جديد، لا ينسى سابقه، بل يمتلئ بحكمته، ويمضي بحمولته إلى الأمام بعقلانية ورؤية، مع ما يتجلى فيه من إستراتيجيات، تتحرك نحو صياغة فعلٍ يواكب زمنا استثنائيا جديدا، قادرا على الإمساك بزمام المستقبل، يعيدون فيه توجيه الدفة لبلورة مشروع نهضوي، يحتمي برؤية عميقة للتقدم، يحرك الزمن في المضي على سكته.

هؤلاء هم قادة المستقبل، وأصحاب الرؤى الخلاقة في إنتاج حالة مغايرة لما كانت عليه دولهم سابقا، وانتقالها إلى مناطق فعل، ترتقي بالازدهار والتطور.

من هنا، نقف أمام التجربة الأردنية المعاصرة في التنمية والنهوض منذ نشأة الدولة قبل مائة عام، بما حملته من تنويعات في انتقالاتها من عهد إلى آخر، وفي كل انتقال، كانت تحتكم إلى حاجة الدول للتغيير الإيجابي الذي تتجسد في دائرته أحلام وطموحات الأردنيين في التنمية والتقدم.

جسّد جلالة الملك عبدالله الثاني، بقيادته الحكيمة رؤيته في عملية انتقال المملكة الأردنية الهاشمية من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين،

بسلاسة وحكمة، تزن كل خطوة في عملية الانتقال، لتحقق جدواها في خلق مناخات تنموية للأردنيين، تعيد تشكيل تطلعاتهم لمستقبل مشرق وآمن.

وفي هذا السياق، نقدم قراءة حول الكتاب الصادر مؤخرا عن صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية بمناسبة اليوبيل الفضي لتسلم جلالة الملك سلطاته الدستورية، تحت عنوان "الانتقال الكبير.. الأردن في القرن الحادي والعشرين: ازدهاره ومنعته"، وهو كتاب يستجلي التجربة الأردنية في انتقالها الاستثنائي من زمن إلى زمن جديد، بما يقدمه من وثائق وتحليلات وقراءات، تكشف عن عمق رؤية جلالة الملك في صياغة دخول المملكة القرن الحادي والعشرين وعبور الربع الأول منه، لتعزيز قوة ومنعة الأردن، الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والتعليمية والصحية والثقافية والتنموية.

فما تحقق خلال هذه الفترة الزاخرة بالتحولات الإقليمية والعالمية، لم يفت من عزيمة الأردنيين بقيادة جلالته، في تجاوز محطات معقدة من هذه التحولات، بخاصة وأن الأردن يقع في وسط إقليم ملتهب.

تفصح فصول الكتاب الذي يعد وثيقة دقيقة، ترصد مفاصل عملية انتقال المملكة من أفق التأسيس والبناء، إلى أفق تتجلى في مدياته، إمكانات القائد في رسم مسار حيوي لبلد، استطاع أن يواجه التحديات الداخلية والإقليمية بقوة واقتدار، وأن يعزز إمكانيات الأردنيين وقدراتهم في المضي نحو المستقبل، وتحويل التحديات إلى فرص حقيقية، تسهم بالتنمية والاستثمار في المواطن، الذي تراكمت خبراته في فهم التحولات والتفاعل مع العصر خلال المائة عام، في اجتراح معجزته في العمل والإنتاج.

وبرغم ما يحتدم في الإقليم من صراعات، إلا أن الأردن لم يغفل موقعه الإستراتيجي، وعلاقاته الإقليمية والعربية الإستراتيجية، وأفق منظومة علاقاته الدولية، فوظف كل هذه المقدرات في الاستثمار السياسي، ودفع بكل قوته إلى تخليق مبادرات حيوية لإطفاء حرائق الإقليم، في مسعى منه إلى إرساء حالة من الاستقرار في المنطقة.

ومنذ لحظة تسلم جلالة الملك سلطاته الدستورية في السابع من شباط (فبراير) 1999، تبدت رؤيته المتوازنة في تعزيز قدرات المملكة في مجالات تمكّن من النهوض بالقيم الوطنية وتُرسي مفهوم المواطنة، وترتقي بها، في إطار مشروع وطني يوظف إمكانيات الأرض والإنسان في مهمة، تحقق الانتقال الكبير إلى القرن الحادي والعشرين بكل مقتضياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، ودخول عصر يتمثل تقدمه إلى ملامح جديدة كليا عما سبق.

ويعد هذا الانتقال مفصليا في تاريخ الأردن، لأنه يحتكم في مهامه إلى إنتاج مقاربات عملية على أرض الواقع، في جذب الاستثمارات الضخمة، والتفاعل مع الثورة الصناعية الرابعة ومشتقاتها، والتوجه الى مقتضيات التعليم الحديثة، وتحديث التشريعات الوطنية، محتشدا بروح العمل والانطلاق في هذه المساحات الجديدة، بما يتدافع فيها من أحلام وطموحات ومقترحات، مستندا على الحاجة لصياغة مفردات تنموية قادرة على الارتقاء بالبلاد.

لقيت الرؤية الملكية في تحديث الأردن بما يواكب مقتضيات العصر الجديد، صدى كبيرا لدى المواطنين، فما يحمله عقلهم الجمعي من رغبة في تحقيق منعتهم بالمضي في عصر، لم تشهد الإنسانية شبيها له في التقدم العلمي، والتشكيلات السياسية والتكتلات الاقتصادية والتحالفات الكبرى، سيمضي بهم إلى ما هو أبعد من لحظتهم الراهنة، وسيضعهم في مواجهة مع المستقبل، وحاجاته التي تتطلب تأهيلا مسبقا لحاجات الدخول إليه، ما أضفى على استجابتهم لهذه المتطلبات اندفاعا، تبلور في المحطات العديدة التي أثبتوا فيها دافعيتهم للعمل والإنجاز، كل ذلك إلى جانب ما يتمتعون به من صلابة ومنعة، تأسست عبر تاريخ من المواجهات مع العواصف المحيطة بهم.

يستهل الكتاب صفحاته، بما قاله جلالة الملك عبدالله الثاني في الثالث والعشرين من تشرين الأول (اكتوبر) 2012 "هذه الدَّولة الأردنية ليست إنجازًا لشخص، أو طرف واحد، وإنمَّا هي إنجاز تراكمي لكل الأردنيين من جيل إلى جيل".

من هنا فإن جلالته، وقبل أن يطلق هذه المقولة منذ أكثر من عقد، أسس لقواعد عهد جديد، ترتكز على المشاركة الشعبية لتحقيق المنعة للوطن والمواطن، والتي أساسها أن الجميع تحت سماء هذه البلاد، هم شركاء في بناء أردن محصن بقدرة قائد مدرك لحاجات وتطلعات مواطنيه، وتماسكهم حول قيادتهم.

اشتمل كتاب "الانتقال الكبير" على ثمانية فصول، وأكثر من 500 صفحة، وقد وضعت عناوينها في سياق يرسم عملية الانتقال، بشمولية وصدق، موثقا في كل فصل، الوقائع والتغيرات والرؤى التي تحققت ومساعي تحققها. كل ذلك بعمق يكشف عن حقيقة الانتقال وأهميته، وما صاغه في الوجدان الجمعي، وما حققته مسيرة ربع قرن من إنجازات، تنعكس على الواقع وتتفاعل معه، وترسم ملامحه بوضوح وشفافية وصدق.

فإلى جانب كونه كتابا يقرأ الواقع في 25 عاما، لكنه أيضا يفتح الباب على المستقبل، وما يحمله من تجليات، تكشف عن قدرة الأردن والأردنيين بقيادتهم الواعية لمقتضيات العصر وحاجاته، وعن كيفية تطبيق الرؤى والإستراتيجيات التي انطلق العمل بها منذ بدأ عهد الملك المعزز، ليمضي بالبلاد إلى مناطق الفعل والإنجاز، مرسخا هذه القيم في الوجدان الجمعي للأردنيين، ومشددا على أن تصبح الإنجازات ذات ديمومة تتنامى فيها تطلعات الأجيال، من أجل اجتراح مستقبل يحمل في جيناته، قدرة الأردني على الفعل والتصويب نحو الهدف بدقة.

فالأردنيون الذين نحتوا مدينة الرقيم أو "البترا"، التي تعد واحدة من أجمل المعجزات المعمارية في التاريخ، وهندسوا روحها لتبقى خالدة على مر القرون، قادرون دوما على اجتراح معجزاتهم في تجاوز التحديات، وصناعة مستقبلهم بأمل لا يُحد في الوصول إلى ما يصبون إليه.

فقد تمكن الأردن خلال مائة عام من الصمود أمام التغيرات العاصفة في الإقليم والعالم، ومواجهة التحديات وتجاوزها، فبرغم ما عاشته المنطقة العربية من قلق وصراعات، بقيت المملكة محافظة على مكانتها وكينونتها واستقرارها، منطلقة من وعي قيادتها بأهمية التغيير ومتطلبات العصر للتقدم فيه، في مسعى منها لتحقيق تطلعات الشعب.

يستهل الكتاب صفحاته بمقدمة وملخص تنفيذي. وفي المقدمة، يكشف عن المحتويات وما تشتمل عليه أبرز مضامينه. أما الملخص التنفيذي، فينفتح على المحتوى الذي يغطي ويرصد المحطات التي تحرك فيها الأردن نحو المستقبل بشمولية ووضوح، وبلغة سلسلة، ومنهجية علمية، تتيح معرفة اتجاهاته وملامحه، وما ارتكز عليه من آفاق للخروج بهذا النسق المتماسك، ليفصح عما أنجز خلال مسيرة ربع قرن من تاريخ المملكة الرابعة.

تفصح الإحاطة التي يقدمها الموجز التنفيذي، عن بلاغة اللحظة الأولى، لعملية الانتقال من عهد جلالة الراحل الحسين الباني إلى عهد جلالة الملك عبدالله الثاني المعزز، إذ كشف إيقاع الانتقال عن قدرة القيادة الهاشمية في التماهي مع الوطن والشعب لصياغة واقع جديد، تتناغم فيه القيادة مع أبنائها في فهم الحاجة للمضي نحو المستقبل بمفردات عمل وإنتاج بناءة، فـ"لم يكن مشهد جنازة الملك الراحل (الملك الحسين بن طلال)، هو المشهد المهيب الوحيد الذي شهده الأردن وهو يودع القرن العشرين، ويستقبل قرنا جديدا، فقد رافق ذلك انتقال سلس وهادئ للعرش الأردني. كان محط أنظار العالم، الأمر الذي أكد نضوج الالتزام الدستوري، واستقرار المؤسسات السيادية في المملكة وانضباطها".

احتمى هذا الانتقال بروح الدولة ومكوناتها المرتكزة على قواعد صلبة، والمحمولة على أكتاف حماتها المصطفويين، لتبدأ البلاد منذ تلك اللحظة في التقدم نحو تمتين أساسات بنائها، بتحديث الدولة وتطويرها، وإعادة بلورة مفاهيم الإدارة القائمة على أحدث النظريات العلمية في الإدارة والعمل لتعزيز دور المؤسسات، ومواكبة التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى، وتمكين المجتمع من التفاعل مع التطورات التكنولوجية والمعرفية، في نطاق يحفظ الهوية الوطنية الأردنية، التي تستمد جذورها من الثقافة العربية الإسلامية، بقيمها العريقة.

تلك الرؤى الحداثية، هي التي فتحت الأفق لأردن جديد، وأسهمت بتحقيق انتقال نوعي للمجتمع إلى منطقة فعل نوعي، تمده بالعلم والمعرفة والتفاعل مع الآخر، وفهم قضايا العصر، والتشارك في الحضارة العالمية. ذلك بدا في مستهله غير مربك لمجتمع، يمتلك تاريخا عريقا من التحضر والبناء والتنوع والتعددية، فلم تكن متطلبات الانتقال بعيدة عن روح المجتمع الأردني، لما يتسق في نطاق وعيه، من القبول بأنماط عيش وتعليم وعمل تحتمي بثقافته وهويته وعصره، بمعنى؛ أنه انتقال أحدث تغيرا للأفضل في نوعية الحياة، وارتقاء متقدم بمفهوم المواطنة، وما ينبثق عنه من حيثيات، تتعلق بالتعليم والحريات والحقوق والواجبات والموقع الإنساني والحيوي للأردن في العالم، وقد بدأت ثمار هذا الانتقال، تتجذر في صورة نهضة جديدة، تحمل معها ملامح مستقبل يمكّن الأجيال من تجاوز التحديات، بما يحقق التجديد والانفتاح على عالم جديد.

يظهر "الانتقال الكبير" الجهد اللافت في إنجاز مادته، التي تعرض لمفاصل عملية الانتقال في الواقع برؤية وشفافية، تستند على المنجزات، وفي نطاق متسلسل غير مخل بوظيفة الكتاب/ الوثيقة، ليقدم صورة متقدمة في قراءة النتائج بوعي، في إطار رؤية فكرية عميقة، تجتهد في التقاط التفاصيل خلال ربع قرن وتوضيحها بالوثائق والبيانات، لتشكل سياقا معرفيا موثقا يمكن التحقق منه ولمسه على أرض الواقع. وإلى جانب نأي واضعيه عن الحشو والشعاراتية، فإنه يقدم تفاصيل، بعضها لم يحظ بالنشر في الصحف، وبعضها خرج كاستنتاجات وبيانات وحسابات، تقدم مقترحاتها من منظور عملي واقعي.

يحتوي الفصل الأول على عرض لمفهوم قيم الدولة الأردنية، واستمراريتها وتجديدها، وذلك هو متطلب يجب أخذه بالاعتبار، فأن تذهب نحو التحديث عبر انتقال كبير من زمن لآخر، تحتاج إلى أسس تقف عليها في هذه المهمة، أسس فكرية وروحية، وقد تجلى ذلك في فهم واضعي الكتاب لهذه المهمة التي أولاها جلالة الملك جل اهتمامه، في تعزيزه لمفهوم ومنطلقات الهوية الوطنية الأردنية، ضمن مساحة تتيح للمجتمع أن يبلور تفاعله مع العصر، بما يحفظ هويته من التفتت، ويجذرها في الوعي الوطني، كمفتاح لأسس العمل والمشاركة في عملية البناء الجديدة، التي تتطلب إلى جانب الأدوات المادية، مفردات روحية ومعنوية، تضبط إيقاع العمل والتقدم، وهذا ما نستطيع لمسه خلال ربع القرن الماضي الذي ارتقى فيه مفهوم الهوية، بقيمه العربية الإسلامية المشرقية الرفيعة، تلك التي ترتقي فيها قيم التسامح والسلم المجتمعي والإخاء والمساواة والتعاون والتشارك والعدالة. وبذلك تصعد القيم السياسية والثقافية للدولة إلى مرتقاها الحيوي، مع حفاظها على مكوناتها الحضارية، وتستمر في ترقيتها.

يحيلنا الفصل الثاني في استهلاله إلى مقولة ملكية حول مفهوم الاستقلال الوطني، وقد وردت في خطاب لجلالة الملك في الـ25 من أيار (مايو) 2008 خلال احتفال بذكرى الاستقلال، تفيد بأن "الاستقلال هو مسيرة من الإنجازات الوطنية التي تعزز مفهوم السيادة الشاملة، وحرية الإرادة، واتخاذ القرار الوطني الحر".

وإذ يفرد هذا الفصل لـ"السياسة والتحديات الإستراتيجية" مكانا رحبا، فإنه يكشف عن الفضاء السياسي الوطني الذي يتحلى بالندية الإستراتيجية إقليميا وعالميا، بعيدا عن فكرة التوازن السياسي والتموضع في منطقة تُخلِّق النزاع، بل يذهب إلى تجنيب المنطقة الفوضى، ما جعل الأردن كدولة مستقرة، يعيد في الربع الأول من القرن الحالي تموضعه الإستراتيجي في مواجهة عدم الاستقرار الإقليمي، وتراجع الأمن القومي العربي، مستندا على تماسك وطني كبير وبنية أمنية وعسكرية متينة، وثراء سياسي حيوي، ومنظومة تحالفات دولية وإقليمية مستقرة.

تبلورت رؤية جلالة الملك هنا في الخلوص إلى وضع المجتمع الدولي والعالم، أمام حقائق المنطقة وحاجاتها، وما يترتب على الأردن المعتدل من متطلبات تسهم بتعديل كفتي الميزان في منظومة علاقاته الإقليمية والعالمية، فكانت خطابات جلالته في المحافل الدولية، مفتاحا لوضع العالم في صورة الحقائق الجغرافية والسياسية والاقتصادية والروحية التي تعيشها المنطقة، وهو ما رأينا تجلياته في صدِّ صفقة القرن التي حاول مسوّقوها إغفال أسس الصراع في المنطقة، والحقوق الوطنية الفلسطينية بدولة مستقلة.

من هنا فإن عقيدة الملك، تجلت في الدفاع عن القدس والوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، ودفع العالم لإدراك أهمية مهمة جلالته التي تمكن فيها من التأكيد على أن انتهاكات المستوطنين الإسرائيليين المستمرة لمدينة القدس بما تحمله من أبعاد دينية وروحية للعرب والمسلمين والمسيحيين، سيأخذ المنطقة إلى مساحة قاتمة من النزاعات الدامية، التي ستضع العالم في مواجهة مع التطرف الصهيوني.

ومع تواتر التحولات العربية والإقليمية، ظل الأردن حاضرا بقوة في مقاومة الصورة القاتمة للمنطقة، وأحقية شعوبها في العيش بهدوء وسلام، فجسد ذلك بالدفاع عن الإسلام والمسلمين، داحضا ظاهرة الإسلامفوبيا، وتبدى ذلك بجلاء في خطابات جلالته التي طرح فيها مقاربات عميقة حول هذه المسألة، وحملت في مضامينها رؤية وفكرا بصيرين، يتطلعان إلى محاربة الإرهاب والتطرف بأشكاله كافة، واستعادة صورة الإسلام الحضاري، المترفع عن كل أشكال التطرف والعداء مع الآخر.

يمضي الكتاب في الفصل الثالث، إلى قراءة ضافية لـ"الاقتصاد والسعي نحو بناء ثروة المجتمع الأردني"، وقد كثف جلالته رؤيته في هذا الجانب، بـ"دولة الإنتاج التي تسعى لصناعة الفرص والاعتماد على الذات"، وهو ما بنيت عليه مضامين هذا الفصل، في استعراضها لما يمكن أن يحقق السعي إلى بناء ثروة المجتمع، وتجليات ذلك البناء في خلق إنسان منتج عملي، لا يهدر طاقته بعيدا عن التشارك في المهام الموكلة إليه في العملية الإنتاجية.

كما يعرض الفصل لآليات الصمود والمنعة وسط الصدمات الخارجية، والمعنى هنا يتضح من أن الأردن، يعيش في وسط إقليم غير مستقر محتشد بالصدمات، لذا فإن ما يتطلع إليه هو تمتين قوة المجتمع الأردني بتحقيق ازدهاره الاقتصادي النوعي، ليظل متمتعا بالمنعة والقوة، وقادرا على الإمساك بمفاتيح التنمية والثروة، عبر الأدوات التي تحقق ذلك عن طريق الاستثمار، والاستجابة لمتطلبات العصر، بالاستفادة من إمكانيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في نطاق الثورة الصناعية الرابعة، وغيرها من مفردات تحقيق الازدهار في عصرنا، كريادة الأعمال والسياحة والصناعة والتجارة، كل ذلك في ظل قوة اجتماعية عاملة، تعتمد على ذاتها في العملية الانتاجية.

وقد بلور جلالته هذه الأدوات، في عملية جرى تداولها وتطوير مفرداتها وآليات عملها عبر مشروع وطني حمل عنوان "رؤية التحديث الاقتصادي: إطلاق الإمكانيات لبناء المستقبل"، وهي رؤية شاملة جامعة، تستند على مرتكزات يسعى تطبيقها إلى خلق فرص جديدة للأردنيين في الاستثمار والعمل والبناء، لتنهض عليها قوتهم في وعي أهمية الإنتاج والإنجاز من أجل بناء مستقبل البلاد.

يمضي الفصل الرابع "التحديات الكبرى وإدارة الندرة" إلى الكشف عن التحديات التي تواجه الأردن، وهو هنا يعرض بشفافية لأبرزها وحاجتنا لاجتيازها بقوة وصلابة، مثل تحديات المياه والطاقة والزراعة والأمن الغذائي والبطالة والفقر.

وهنا تتكشف قدرة الأردن، برغم إمكاناته المحدودة، على تجاوز التحديات، في ظل ما واجهه خلال هذه الحقبة من عمليات لجوء إلى أراضيه، بخاصة للأشقاء السوريين، ليعد من بين أكثر الدول استقبالا للاجئين الذين شاركوا الأردنيين في اللقمة والغرفة الصفية والمسكن والعمل، ما ضاعف أعباء الحاجة إلى تعزيز منعة البنية التحتية والموارد المحدودة واستدامتها، لتتمكن من تغطية الحاجات المضاعفة للتنمية، فقد وضعه الضغط الهائل على مقدراته في بؤرة تحديات عصية على التجاوز، لكنه تمكن بوعي قيادته وأبنائه من تطبيق إستراتيجيات ورؤى، أسهمت بتخطي الكثير من هذه التحديات، وتفعيل قدرة الأردن على الاستجابة لما يلح عليه من متطلبات.

في الفصل الخامس، نقف أمام "الخدمات العامة ونوعية الحياة"، وقد بدأنا نعيش عمليات التطور الواسعة في الخدمات ونلمسها في مختلف مناطق العمل في هذا القطاع، ما ينعكس على نوعية الحياة للأردنيين، وهو ما يضعنا في مواجهة مع التغير الواضح في التحديث الذي لازم بنية المدن والبلدات الأردنية، بما تحقق لها من تأهيل متقدم في المرافق والخدمات والآفاق، وبمختلف المجالات من حيث التعليم الذي اتسمت الرؤية الوطنية الجديدة بشأنه، بتحقيق انتقالات كبيرة فيه ليواكب آفاق التعليم في الدول المتقدمة، والخروج من الأنماط التعليمية التقليدية، وقد أفسح هذا إلى تطور ملحوظ في سياقات التعليم ككل، بلورتها المناهج العملية الحديثة، والتوجه نحو تخليق فرص تعليم أكاديمي ومهني متقدمين، يسهمان بتلبية حاجة البلاد لطاقات جديدة متنوعة في مجالات راقية.

والى جانب ذلك، فقد تجلت عملية التطوير الهائلة للقطاعات الصحية وقطاعات النقل والبنية التحتية، التي تعيد بلورة صورة الدولة الحديثة، وترقية ملامحها، وتجذير الوعي بأهمية الارتقاء بهذه القطاعات، لتحقيق انتقالات في مجالات موازية، تنهض بمقدرات الدولة والمواطن، كل ذلك في سبيل تعزيز المنعة، وتجاوز التحديات بما يمكّن المواطن من الحصول على حقوقه الحيوية بحياة أفضل.

ولا يبتعد الفصل السادس "الرياضة والشباب ورعاية الثقافة" عن هذه المهمة، حين يكشف عن حرص جلالة الملك في توجيه الأنظار مبكرا إلى الأجيال الجديدة من الشباب، وقد سمعناه دائما في خطاباته وتوجيهاته، يصب اهتمامه الكبير على الشباب، لكي ينهضوا في قطاعاتهم الشبابية ويطوروا من طموحاتهم وتطلعاتهم، ولا تخلو مناسبة من قيامه بلقاء مع شرائح منهم، يحرضهم خلالها على تجاوز كل ما من شأنه إحباط عزائمهم.

كما أن هذه التوجيهات الملكية للاعتناء بالشباب، تجلت في توفير مساحات من المشاركة لهم في الجامعات والمراكز الثقافية والرياضية، والمؤسسات التعليمية والمشاريع والأعمال، وتطوير تطلعاتهم، ودفعهم لاجتراح المبادرات والمشاركة في العمل العام، والتقدم في الوظائف، وتخليق فرص، تعلي من قدراتهم وإمكانياتهم ومهاراتهم.

أما الفصل السابع "المجتمع والدولة: الاستقرار والاستثناء الأردني"، فتلخصه مقولة لجلالة الملك في مقال نشره جلالته في مجلة "وورد بوليس جورنال" يوردها الكتاب في مستهل الفصل، نقتبسها منه "إننا في الأردن نريد إصلاحا لا رجعة عنه؛ إصلاحا مبنيا عل التغيير السلمي والمتدرج والتعددية واحترام الآخرين، من خلال المضي بشكل حازم نحو الإصلاح واحترام الآخرين، رغم كل التحديات الأمنية المحيطة بنا فعليا من كل الجهات، وأيضا عبر إطلاق عملية تحول سياسي غير مسبوقة، ترتكز على مبادئ إدماج الجميع والمشاركة، لتمكنا من تدعيم أسس أمننا القائمة على الوحدة الوطنية".

لقد واجهت المنطقة العربية جُملة تحولات وتحديات، أدت إلى خلق مناخات معقدة في بنية بعض دولها، تسببت خلال تداعيات الربيع العربي بإنتاج نزاعات وأزمات ما تزال تداعياتها الحادة حاضرة إلى اليوم، وقد تمكن الأردن من تجاوز هذه "الهشاشة في الإقليم" كما يسميها الكتاب، ومضى إلى "التقدم والاستقرار في وسط بيئة صعبة"، متجاوزا محنتها بهدوء وحكمة عاليتين، لم تكبد الأردنيين أي خسارات، ولم تضعهم في صدام مع الدولة، بل سعت الدولة إلى تحقيق منعة المجتمع وتصليب قوته الاجتماعية وتعزيز "سيادة القانون وتحديث الإدارة العامة"، كما يفصح الفصل الثامن الذي يعرض لتطوير المنظومة التشريعية، واستقلال القضاء، ومكافحة الفساد، وبناء المؤسسات وتحديث القطاع العام.

وفي كل ذلك، فإن مساعي الانتقال الكبير، تبرز قوة الإرادة الصلبة التي يتمتع بها الأردنيون بقيادتهم الواعية، في بناء وطن تكتمل فيه عناصر النهضة وأساساتها، لدخول المستقبل مواكبين لما سيحدث من انتقالات كبرى، تغير وجه الحضارة البشرية، وتعيد ترتيب أولويات الأمم والشعوب.

وقد قدم جلالة الملك وما يزال، رؤى فريدة في إدارة التوجهات والتحولات، لصياغة معان ترتقي بمفهوم الدولة الأردنية المعاصرة، تلك التي تعتمد على إرادة المواطن الحرة، والأفق المنفتح على التجارب الإنسانية في التقدم والرقي، والمنعة.

فالأردن اليوم، يذهب إلى مساحة جديدة، تتحقق فيها طموحات القائد والشعب في النهوض، وبرغم ما تتشابك في قلب العالم من مخاضات للتغيير والتحول الكبيرين، إلا أنه يظهر استعداده المتقدم في مواكبة اللحظة المشرقة لحياة أفضل، تزدهر بالعمل والإنتاج والاستقرار.