الدكتور جوزيف مسعد:معركة جديدة أم بداية حرب التحرير الفلسطينية؟

الوقائع الاخبارية:الدكتور : جوزيف مسعد استاذ العلوم السياسية في جامعة كولمبيا .
المقالة التي نشرت في اليوم التالي لطوفان الأقصى والتي أثارت اللوبي اليهودي في امريكا

معركة جديدة أم بداية حرب التحرير الفلسطينية؟
-----
المقاومة الفلسطينية. وبالفعل، أصبحت هذه الطائرات الشراعية هي سلاح جو المقاومة الفلسطينية.

وتأتي العملية الفلسطينية التي لم يتوقعها أحد، وأطلق عليها اسم "عملية طوفان الأقصى"، رداً على المذابح الإسرائيلية المستمرة في بلدة حوارة بالضفة الغربية وفي القدس، لا سيما من قبل المستوطنين في المسجد الأقصى خلال الأعياد اليهودية في الشهر الماضي، عدا عن الحصار المستمر على غزة نفسها والممتد منذ أكثر من عقد ونصف. إن الإجماع بين العديد من المعلقين في وسائل الإعلام العربية هو أن المقاومة الفلسطينية قد حطمت فعلياً أسطورة القوة العسكرية الإسرائيلية والسمعة غير المستحقة لأجهزة استخباراتها، التي كانت إخفاقاتها مذهلة، كما أثبت نجاح الهجوم الفلسطيني المفاجئ.

ولم يكن أقل إثارة للدهشة استيلاء المقاومة الفلسطينية على العديد من المستعمرات الاستيطانية اليهودية المتاخمة لحدود غزة، وعلى مسافة تصل إلى 45 كيلومتراً داخل إسرائيل في حالة مستعمرة مدينة أوفاكيم. وربما يكمن الإنجاز الرئيس للمقاومة في سيطرتها المؤقتة على هذه المستوطنات الاستيطانية في توجيهها ضربة قاضية لأي ثقة كان يشعر بها المستوطنون الإسرائيليون في هذه المستوطنات بشأن جهوزية الجيش الإسرائيلي وقدرته على حمايتهم. فهروب المستعمرين من هذه المستوطنات حفاظا على حياتهم ومستقبل أطفالهم قد يصبح نزوحا دائما، فربما أدرك المستوطنون أخيراً أن العيش على أرض مسروقة من شعب آخر لن يجعلهم آمنين أبداً.

ربما يكمن الإنجاز الرئيس للمقاومة في سيطرتها المؤقتة على هذه المستوطنات الاستيطانية في توجيهها ضربة قاضية لأي ثقة كان يشعر بها المستوطنون الإسرائيليون في هذه المستوطنات بشأن جهوزية الجيش الإسرائيلي وقدرته على حمايتهم. فهروب المستعمرين من هذه المستوطنات حفاظا على حياتهم ومستقبل أطفالهم قد يصبح نزوحا دائما، فربما أدرك المستوطنون أخيراً أن العيش على أرض مسروقة من شعب آخر لن يجعلهم آمنين أبداً
يشمل مستوى الاشتباك العسكري بين المقاومين الفلسطينيين والقوات الاستعمارية الإسرائيلية واسع النطاق أكثر من عشرين موقعاً للمعارك، حيث أعلنت منظمة حماس المقاوِمة عن 50 هدفاً عسكرياً إسرائيلياً لعملياتها. وقد كان مشهد مقاتلي المقاومة الفلسطينية وهم يقتحمون نقاط الحدود الإسرائيلية التي تفصل غزة عن إسرائيل مذهلاً، ليس فقط لدى الإسرائيليين، ولكن أيضاً بشكل خاص لدى الفلسطينيين والشعوب العربية التي هبّت في مسيرات حول العالم العربي دعماً للفلسطينيين في معركتهم ضد مستعمريهم.

وبالفعل، لقد منعت قوات الأمن الأردني الأردنيين الذين ساروا إلى الحدود مع إسرائيل من الاقتراب من النقاط الحدودية. ولم تكن هذه المشاهد أقل مفاجأة بالنسبة لمعظم العرب المبتهجين الذين أمضوا يومهم في مشاهدة الأخبار المتلفزة، وشاهدوا المقاومين الفلسطينيين يخترقون سياج الاحتلال الإسرائيلي جواً على متن طائراتهم الشراعية الآلية.

ولا يمكن وصف صدمة الفلسطينيين والعرب وهم يشاهدون الجنود والضباط الاستعماريين الإسرائيليين في قبضة المقاومة وهم في ملابسهم الداخلية، والاستيلاء المذهل على قاعدة عسكرية إسرائيلية، حيث ترك الجيش الإسرائيلي وراءه قبل هروبه عشرات الدبابات والعربات المدرعة التي رفعت عليها المقاومة الرايات الفلسطينية، وكأنها مشاهد من فيلم خيالي، لا سيما أن الصور القديمة لأسرى الحرب المصريين الذين أذلتهم إسرائيل وصوّرتهم بملابسهم الداخلية خلال حرب عام 1967، ناهيك عن صور أسرى الحرب الفلسطينيين بملابسهم الداخلية تحت سيطرة الجنود الإسرائيليين، كان ولم يزل يتردد صداها في الذاكرة الجماعية العربية. ومن بين أسرى الحرب الإسرائيليين ضباط عسكريون رفيعو المستوى، بما في ذلك الجنرال نمرود ألوني. وقد أدى نجاح هذه التوغلات على الأرض، إلى جانب الهجمات الصاروخية على إسرائيل، إلى وقف معظم الحركة الجوية التجارية في المطارات الإسرائيلية.

وبعد أن دمرت القنابل الإسرائيلية بناية "برج فلسطين" المؤلفة من أكثر من 100 شقة سكنية في غزة، ردت المقاومة بإطلاق عشرات الصواريخ على تل أبيب. وقد أدى القصف الإسرائيلي الهمجي على غزة، حتى وقت كتابة هذا التقرير، إلى مقتل أكثر من 413 فلسطينياً (معظمهم من المدنيين- لا توجد معلومات حتى الآن عن عدد القتلى من المقاومين)، في حين أدى هجوم المقاومة الفلسطينية على إسرائيل حتى الآن إلى سقوط 700 قتيل إسرائيلي –من عسكريين ومدنيين- وهي حصيلة مروعة في المجمل ليوم واحد من المعارك.

وقد سارع أعداء الشعب الفلسطيني الدوليون إلى إعلان دعمهم لنظام الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، وإدانة المقاومة الفلسطينية. ويشمل ذلك أعداء الشعب الفلسطيني الرئيسيون: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة. وقد انضم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي أدى تحالفه مع الغرب ضد روسيا إلى دفع كوكبنا إلى حافة حرب نووية، إلى مؤيديه الغربيين وأدان المقاومة الفلسطينية ووصفها بأنها "إرهابية"، وأكد أن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس أمر لا جدال فيه".

أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، غير المعروف بحبه للشعب الفلسطيني، فقد دعا إلى إعادة المدنيين الإسرائيليين "المختطفين" من قطاع غزة: "يجب احترام وحماية المدنيين وفقا للقانون الإنساني الدولي في كل وقت". ولم تصدر أي كلمة من غوتيريش عن أكثر من 5000 أسير حرب فلسطيني ومخطوفين (ولا يستخدم غوتيرش البتة مصطلح "مخطوفين" لوصف الأسرى الفلسطينيين) في زنزانات إسرائيل، كما لم يذكر حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال بموجب القانون الدولي.

في هذه الأثناء، طالبت الحكومات العربية المتحالفة مع إسرائيل المقاومة الفلسطينية بوقف عمليات المقاومة، إلا أن هذه الحكومات كانت في معظمها قد التزمت الصمت في الأسابيع الأخيرة إزاء المذابح الإسرائيلية المستمرة. وكثيراً ما تدين الحكومات الغربية والعربية والليبراليون الغربيون والعرب المقاومة الفلسطينية لقبولها المساعدة العسكرية والمالية من الحكومة الإيرانية للدفاع عن الشعب الفلسطيني من جرائم الاستعمار الإسرائيلي، كما لو أن الفلسطينيين كانوا قد رفضوا عروض الدعم من دول أخرى. وهذا يشبه مطالبة الأوروبيين الذين كانوا يعيشون تحت الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية برفض المساعدة العسكرية والمالية من نظام الفصل العنصري الأمريكي الذي كان يحكم بموجب أيديولوجيا التفوق العرقي الأبيض رسمياً آنذاك، ناهيك عن الأنظمة الاستعمارية العنصرية في فرنسا وبريطانيا، لمقاومة الاحتلال النازي. لكن بخلاف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فإن إيران لم تقم بقتل الملايين حول العالم ولا قامت باستعمار أو احتلال أراضي الآخرين.

وكان الإسرائيليون والسلطة الفلسطينية قد دأبوا على توجيه الاتهامات والتهديدات لإيران بزعم وقوفها وراء المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد ألقى الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ باللوم على إيران بخصوص "عملية طوفان الأقصى" وهدد بإنهاء التهديد الإيراني المزعوم.

سيستغرق انقشاع غبار المعارك الدائرة بعض الوقت، لكن ما هي العواقب السياسية التي ستتمخض عن أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؟ وما مدى احتمالية تأثير الحرب على حكومة نتنياهو؟ يزعم بعض الإسرائيليين أن رد حماس على الإرهاب الإسرائيلي المستمر قد جعل حتى أكثر اليساريين الإسرائيليين تزمتاً يدعون إلى وقف المسيرات المناهضة لنتنياهو والانضمام إلى حرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني، مطالبين بمحو غزة عن الوجود بالكامل. فهل يعني ذلك أن القومية الشوفينية الإسرائيلية المتوقعة ستعزز من نفوذ نتنياهو أم ستضعفه؟

هل سيؤثر انتصار المقاومة هذا على المسيرة الثابتة نحو التطبيع السعودي-الإسرائيلي أو العلاقات الدافئة المستمرة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب؟ في اعتقادي، لن يقف أي شيء في طريق علاقة العشق بين الأنظمة العربية الاستبدادية وزعماء المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، على الرغم من أنه من المرجح أن البراعة العسكرية للمقاومة وضعف الاستعداد العسكري الإسرائيلي الذي نشاهده على شاشات التلفزيون في جميع أنحاء العالم سوف تجعلها تعيد تقييم خطواتها القادمة
نظراً للتاريخ الحديث للانتخابات الإسرائيلية، وزيادة انتشار الأصولية اليهودية بين المستوطنين اليهود، فإن أي خسارة لنتنياهو ستعني على الأرجح المزيد من الدعم لحلفائه اليمينيين الأكثر تطرفاً، بما في ذلك إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، وليس لمنافسي نتنياهو الأقل يمينية بعض الشيء والذين كانوا ينظمون المسيرات المناهضة له ويزعمون بأنهم "يساريون". وفي خطابه الذي ألقاه في نهاية اليوم الأول من الحرب، والذي وصفه نتنياهو بـ"يوم أسود" لإسرائيل، قام نتنياهو بتقديم الشكر لرعاة إسرائيل الإمبرياليين، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. لكن وعلى أي حال، وبغض النظر عمن سيتولى السلطة في إسرائيل، فلن يغير ذلك شيئا في طبيعة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وعنصريته تجاه الفلسطينيين.

ولكن ماذا عن تأثير انتصارات المقاومة على السلطة الفلسطينية العميلة؟ لقد ردت السلطة الفلسطينية سريعا على عملية المقاومة عبر الدعوة إلى دعم الشعب الفلسطيني وطلب "الحماية الدولية" له من جرائم الاحتلال، ولم تتبرع بأي كلمة دعم للمقاومة. لكن القمع النشط الذي قامت به السلطة الفلسطينية مؤخراً للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية واستلام السلطة شحنة من الأسلحة الأمريكية التي تم إرسالها لمساعدة السلطة على قمع المقاومة قبل بضعة أسابيع، يفضح كذب السلطة وإعلانها الدعائي بدعم النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني. لا شك أن النصر الحاسم للمقاومة في هذه الحرب سيشكل كارثة كبيرة على السلطة الفلسطينية ومسؤوليها المتعاونين مع الاحتلال، ولكن حتى في حالة عدم انتصار المقاومة في الحرب، فإن انتصار اليوم الأول وحده كاف لبث الرعب في قلوب مسؤولي السلطة الفلسطينية.

لقد قامت قوات الاحتلال الإسرائيلية بقتل أكثر من سبعة فلسطينيين في الضفة الغربية منذ بدء عملية طوفان الأقصى. ولا يزال من غير الواضح ما هو الدور، إن وُجد، الذي ستلعبه المقاومة في الضفة الغربية والقدس الشرقية في الأيام المقبلة، وما هو مستوى القمع الذي ستمارسه عليها إسرائيل والمتعاونون التابعون للسلطة الفلسطينية.

ومهما كانت نتائج نهاية هذه الحرب، فإن الانتصار المذهل الذي حققته المقاومة الفلسطينية على الجيش الإسرائيلي في اليوم الأول من القتال هو حدث تاريخي بالنسبة لإسرائيل، كما اعترف نتنياهو، وكذلك للفلسطينيين.

ولكن هل سيؤثر انتصار المقاومة هذا على المسيرة الثابتة نحو التطبيع السعودي-الإسرائيلي أو العلاقات الدافئة المستمرة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب؟ في اعتقادي، لن يقف أي شيء في طريق علاقة العشق بين الأنظمة العربية الاستبدادية وزعماء المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، على الرغم من أنه من المرجح أن البراعة العسكرية للمقاومة وضعف الاستعداد العسكري الإسرائيلي الذي نشاهده على شاشات التلفزيون في جميع أنحاء العالم سوف تجعلها تعيد تقييم خطواتها القادمة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان إعلان محمد بن سلمان الأخير بأن التطبيع مع إسرائيل سوف يقتصر على مطالبة السعودية إسرائيل بـ"تسهيل حياة الفلسطينيين" سيصمد أمام اختبار هذه الحرب.

ولكن بما أن الحرب المستمرة بين جيش الاستعمار الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية لا تزال في يومها الأول، فمن المؤكد أن الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت هذه هي بداية حرب التحرير الفلسطينية، أم أنها معركة جديدة من ضمن معارك الحرب التي لا نهاية لها بين المستعمِر والمستعمَر
يقول بعض المعلقين الإسرائيليين إن هجوم حماس المفاجئ البارحة هو أكثر إثارة للذهول من صدمة حرب 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973 عندما شن الجيشان المصري والسوري هجوما مفاجئا على جيش الاحتلال الإسرائيلي في شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان المحتلتين. ويذكرنا أداء المقاومة في اليوم الأول من الحرب أيضاً بأداء مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في معركة الكرامة عام 1968 في الأردن، والتي أجبرت إسرائيل آنذاك على الانسحاب لأول مرة من أرض المعركة منذ قيامها في عام 1948، ما أدى إلى تعبئة الآلاف من الفلسطينيين والعرب والأجانب للانضمام إلى صفوف المقاومة. ولكن على خلاف هاتين السابقتين ومعاركهما التي دارت في الأراضي المحتلة خارج حدود إسرائيل، فإن هذه هي المرة الأولى التي يشن فيها الفلسطينيون (أو أي جيش عربي آخر) حرباً شاملة داخل حدود "الأراضي الإسرائيلية"، وهذا أمر غير مسبوق منذ قيام المستعمرة الاستيطانية.

ولكن بما أن الحرب المستمرة بين جيش الاستعمار الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية لا تزال في يومها الأول، فمن المؤكد أن الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت هذه هي بداية حرب التحرير الفلسطينية، أم أنها معركة جديدة من ضمن معارك الحرب التي لا نهاية لها بين المستعمِر والمستعمَر.