{clean_title}

ما وراء العلم والمجتمع: نقاء النخبوية و ضجيج الشعبوية (الأصيلة والمصطنعة)

 في ساحة الفكر العلمي والاجتماعي، لا تزال العلاقة بين العلماء والنخبة من جهة، والجمهور الواسع من جهة أخرى، محل جدل ثري ومعقد، طالما أثار إشكالات حول مصادر الحقيقة ومشروعية التأثير في صناعة القرار العلمي.

وفي هذا السياق، تتقاطع ثلاثة توجهات كبرى: النخبوية العلمية (Scientific Elitism)، والشعبوية العلمية بنوعيها الأصلي والمصطنع (Scientific Populism: Authentic and Artificial)، حيث تتكشف جدليات فارقة تبرز جماليات التفاعل وحساسية الموقف في كل مسار.

النخبوية العلمية، أو Scientific Elitism، تشكل الرؤية الكلاسيكية للعلم الحديث؛ فهي تولي السلطة بيد العلماء والخبراء ممن افنوا أعمارهم في التخصص، وترتكز على قيم التخصصية (Specialization) والخبرة العلمية (Scientific Expertise) ، فالنخبوية هنا لا تحمل بالضرورة استعلاء أو قطيعة بل تعبر عن حرص على نقاء المنهج العلمي ودقة نتاجه، عبر حماية المعرفة من التدخلات المنفعية أو الاندفاعات غير المدروسة للجمهور غير أن هذه الرؤية إذا أُفرط فيها قد تفضي إلى عزلة مجتمعية، وتبني جدارا يفصل العلم عن احتياجات الناس اليومية.

أما الشعبوية العلمية الأصيلة (Authentic Scientific Populism)، فهي تيار بحثي وفلسفي استلهمته المجتمعات التي رغبت في جعل العلم جزءًا من نسيج الحياة لا حكراً على المختبرات والأبراج العاجية.

إن هذه الشعبوية، التي تلتقي مع منهج العلم المواطن (Citizen Science) و المشاركة المجتمعية العلمية (Community Engagement)، تمنح العزم للجمهور ليكون شريكا فعالا في الاجتهاد العلمي، انطلاقا من قاعدة السيادة المجتمعية في القرار المعرفي (Decision-making Sovereignty) في هذا النموذج، لا يتم التقليل من شأن العلم الأكاديمي (Academic Knowledge)، ولا تحجب أصوات النخبة عن الساحة، بل يسعى الجميع إلى تعاضد خلاق يخضع دوما لميزان المنهج العلمي (Scientific Method) كحكم موضوعي يجمع ولا يفرق، ويثري المعرفة من خلال تراكم الخبرات والرؤى من شتى الأطراف.

وعلى النقيض من هذه الشعبوية الأصيلة، تظهر الشعبوية العلمية المصطنعة (Artificial Scientific Populism)، بوصفها خطابا يزعم تمثيل الجمهور لكنه في الحقيقة محض أداة سياسية أو دعائية، توظف الشعارات وصراع النخبة والجمهور لإثارة الجدل أو إضعاف الثقة بالعلم النزيه و يفتقر هذا التصور إلى العمق البحثي، ويرتكز على خطاب عاطفي يبالغ في الاحتقان، ويفتعل قضايا لا تستند إلى مشاركات حقيقية أو استيعاب لمصالح المجتمع الأصيلة. إنها نسخة سطحية تستبدل الأصالة بالمظهر والعقلانية بالتهييج، وتخدم أجندات خارج نطاق المنفعة العلمية العامة.

وبين هذه الأطر الثلاثة يسطع جوهر العبقرية في القدرة على إدراك الفروق الدقيقة

يتجلّى نبل النخبوية في حماية التخصص والمنهج الصارم، وتظهر إصالة الشعبوية العلمية حين تصنع تفاعلا واعياً تصب فيه روافد المعرفة الشعبية نخبة وجدلا. أما الشعبوية المصطنعة فتبدو طيفا باهتا يقتات على التشويش وتهديد توازن المعرفة، وتذكرنا بخطورة تسييس العلم أو استغلال الحاجة المجتمعية لمآرب ضيقة.

ليس المقصود أن تكون المقارنة حكما قيميا محضا لأحد هذه الاتجاهات، بل التأكيد أن الاحتكام الحق يظل رهين المنهج العلمي (Scientific Method) بما يتسم به من تحقيق وفحص ونقد ذاتي مستمر و حين تتوافر العدالة للعلم والمجتمع وللنخبة والجمهور على حد سواء، يصبح العلم أداة تحرير وتقدم لا سبيل احتكار أو شعارات مزيفة.

وهكذا، فإن عبقرية اللحظة العلمية الراهنة ترتكز على استلهام أفضل ما في النخبوية الأصيلة والشعبوية الحقيقية، وتجاوز خطر الشعبوية المصطنعة، في بناء مجتمع معرفي متوازن وراسخ الجذور.