{clean_title}

اكتئاب منتصف العمر يزيد مخاطر الإصابة بالخرف بنسبة 50٪

الوقائع الإخباري:  تتزامن مرحلة منتصف العمر عادة مع  ضغوط مهنية متزايدة، ومسؤوليات عائلية معقدة، وتغيرات جسدية وهرمونية، إضافة إلى بدايات القلق بشأن الصحة والتقدم في السن. وقد تسهم هذه العوامل بدورها إلى ظهور ما يسمى "اكتئاب منتصف العمر" الذي قد يظهر بأشكال  متعددة، بعضها تقليدي مثل الحزن المستمر وفقدان الشغف، وبعضها أكثر خفاء وقد ينسب خطأ إلى الإرهاق أو التقدم في العمر.

تكمن خطورة هذا النمط من الاكتئاب بأنه لا يؤثر فقط على الصحة النفسية، بل يرتبط كذلك بتدهور صحة الدماغ، وقد يساهم في ارتفاع مخاطر الإصابة بالخرف في مراحل لاحقة.

ما هو اكتئاب منتصف العمر؟
اكتئاب منتصف العمر هو اضطراب نفسي يصيب بعض الأشخاص خلال المرحلة العمرية الممتدة بين الأربعين والستين. قد يتخذ هذا الاضطراب شكل اكتئاب سريري واضح أو قد يظهر أعراضا اكتئابية جزئية لا تستوفي معايير التشخيص الطبي الكامل، لكنها تؤثر بعمق في جودة الحياة.

لا يختلف هذا النوع من الاكتئاب من حيث الأساس البيولوجي عن الاكتئاب في مراحل عمرية أخرى، لكنه يتميز بسياقه الخاص، إذ غالبا ما يتقاطع مع الشعور بفقدان المعنى، أو تقييم الإنجازات الحياتية، أو الخوف من التدهور الصحي والمهني.

أسباب اكتئاب منتصف العمر
تتعدد الأسباب التي قد تسهم في ظهور الاكتئاب في هذه المرحلة. من الناحية النفسية، قد يشعر الشخص بأنه لم يحقق ما كان يطمح إليه، أو أنه سجين في حياة لم يرغب بها.

ومن الناحية الاجتماعية، قد تتزامن هذه المرحلة مع مغادرة الأبناء للمنزل، أو رعاية الوالدين المسنين، أو ضغوط مالية متراكمة. أما بيولوجيا، فتطرأ تغيرات هرمونية وعصبية قد تؤثر في المزاج وتنظيم المشاعر، إضافة إلى تراكم عوامل خطر صحية مثل ارتفاع ضغط الدم أو السكري، والتي تؤثر بدورها على صحة الدماغ.

العلاقة بين اكتئاب منتصف العمر والخرف
تشير بعض الدراسات، التي تابعت عشرات الآلاف من الأشخاص على مدى عقود، إلى وجود ارتباط قوي بين ظهور أعراض اكتئابية محددة في منتصف العمر وزيادة خطر الإصابة بالخرف في مراحل لاحقة من الحياة بنسبة تقارب 50%.

حيث رصدت هذه الدراسات تأثير أعراض اكتئاب منتصف العمر على التدهور المعرفي وصحة الدماغ، وأظهرت أن بعض الأعراض الاكتئابية الجزئية، حتى تلك التي لا تستوفي معايير الاكتئاب السريري الكامل، تحمل دلالة تنبؤية أعلى بخطر الخرف مقارنة بغيرها. وخلص الباحثون إلى تحديد ستة أعراض رئيسية تتكرر بشكل لافت لدى الأشخاص الذين عانوا من الخرف في وقت لاحق:

أولا: فقدان المتعة أو الاهتمام بالأشياء التي كانت سابقا مصدر سعادة
يعد هذا العرض، مؤشرا على خلل في الدوائر العصبية المسؤولة عن المكافأة، ولا سيما تلك المرتبطة بالدوبامين في مناطق مثل القشرة الجبهية والجهاز الحوفي. هذه المناطق لا تنظم المشاعر فحسب، بل تلعب دورا محوريا في الذاكرة، والانتباه، واتخاذ القرار.

وعندما يختل عملها في منتصف العمر، فإن ذلك قد يعكس بداية تراجع في كفاءة الشبكات العصبية نفسها التي تتأثر لاحقا في الخرف، ما يجعل فقدان المتعة ليس مجرد عرض نفسي، بل علامة محتملة على تغيرات دماغية مبكرة مرتبطة بزيادة خطر التدهور المعرفي.

ثانيا: اللامبالاة أو انخفاض الدافع
لا يقتصر هذا العرض على الشعور العابر بالكسل أو التعب، بل يعكس تراجعا واضحا في القدرة على المبادرة، واتخاذ القرار، والانخراط في الأنشطة الاجتماعية واليومية. ترتبط هذه الوظائف ارتباطا وثيقا بسلامة الفص الجبهي والشبكات العصبية المسؤولة عن التخطيط والتنظيم وضبط السلوك، وهي من أولى المناطق التي تتأثر في بعض أنواع الخرف، خاصة الخرف الوعائي والخرف الجبهي الصدغي. لذلك، فإن ظهور اللامبالاة في منتصف العمر قد يكون إشارة مبكرة إلى خلل في هذه الدوائر العصبية، ما يفسر ارتباطها بزيادة خطر التدهور المعرفي لاحقا.

ثالثا: الإرهاق المزمن وفقدان الطاقة
لا يقتصر هذا العرض على الإحساس الجسدي بالتعب، بل يعكس حالة بيولوجية معقدة ترتبط باضطراب أنظمة تنظيم الطاقة في الدماغ والجسم. تشير الأبحاث إلى أن الإرهاق المزمن يرتبط بارتفاع مؤشرات الالتهاب واضطراب هرمونات التوتر، مثل الكورتيزول، وهي عوامل تسهم في إحداث تغيرات ضارة في بنية الدماغ ووظائفه.

ومع مرور الوقت، قد تؤدي هذه التغيرات إلى تسريع شيخوخة الخلايا العصبية وتقليل المرونة العصبية، ما يضعف القدرة على التعلم والتذكر ويزيد من قابلية الدماغ للتدهور المعرفي، وبالتالي يرفع خطر الإصابة بالخرف في مراحل لاحقة من الحياة.

رابعا: اضطرابات النوم
للنوم دور محوري في الحفاظ على صحة الدماغ، إذ تنشط أثناءه آليات حيوية مسؤولة عن إزالة الفضلات البروتينية السامة التي تتراكم خلال ساعات اليقظة، وعلى رأسها بروتين بيتا أميلويد المرتبط بتطور داء ألزهايمر.

وعندما يصبح النوم مضطربا أو غير منتظم على نحو مزمن، تتعطل هذه العملية التنظيفية، ما يسمح بتراكم هذه البروتينات في أنسجة الدماغ. ومع مرور الوقت، قد يسهم هذا التراكم في إضعاف التواصل بين الخلايا العصبية وتسريع مسار التدهور المعرفي، الأمر الذي يفسر الارتباط الوثيق بين اضطرابات النوم في منتصف العمر وارتفاع خطر الإصابة بالخرف لاحقا.

خامسا: صعوبات التركيز واتخاذ القرار
يعاني كثير من المصابين بالاكتئاب في منتصف العمر مما يوصف بـ"الضبابية الذهنية" أو بطء معالجة المعلومات، حيث يصبح التركيز لفترات طويلة واتخاذ القرارات اليومية أمورا مرهقة ذهنيا. لا تعد هذه الصعوبات مجرد أثر عابر للحالة المزاجية، بل تشير الأبحاث إلى أنها قد تعكس اضطرابا مبكرا في الشبكات العصبية المسؤولة عن الانتباه والوظائف التنفيذية، وهي من أولى القدرات المعرفية التي تتأثر في المراحل المبكرة من الخرف.

سادسا: التباطؤ النفسي الحركي
ويعني البطء في الحركة أو الكلام أو الاستجابة للمثيرات. يعكس هذا العرض خللا في التنسيق بين مناطق الدماغ المسؤولة عن التخطيط الحركي والمعالجة المعرفية، ويظهر على شكل بطء عام في الأداء الجسدي والذهني. ويرتبط هذا التباطؤ عادة بتراجع كفاءة التواصل العصبي وانخفاض سرعة نقل الإشارات بين الخلايا العصبية، ما يجعله مؤشرا ذا دلالة على مسار التدهور العصبي المحتمل في المستقبل.

العوامل الاجتماعية
من الجدير بالذكر أن العوامل الاجتماعية تلعب دورا مهما في تحديد شكل العلاقة بين الاكتئاب والخرف. إذ تشير الدراسات إلى أن تأثير الاكتئاب على خطر الخرف قد يكون أقوى لدى الأشخاص ذوي الدخل المنخفض أو التعليم المحدود، أو أولئك الذين يعانون من العزلة الاجتماعية. كما أن الفروق بين الجنسين قد تكون حاضرة، إذ تظهر بعض الأعراض بشكل مختلف لدى الرجال والنساء في منتصف العمر.

هل يمكن التخفيف من هذا الخطر؟
على الرغم من قتامة كل ما تقدم، لا بد من معرفة أن اكتئاب منتصف العمر لا يصيب الجميع بالضرورة.

من ناحية أخرى، حتى في حالات الإصابة، من الممكن علاجه في حال تم تشخيصه بوقت مبكر، عن طريق  اللجوء للعلاج النفسي أو الدوائي. والأهم من ذلك، يمكن الوقاية منه عبر إجراء بعض التعديلات في نمط الحياة. يشمل ذلك المواظبة على ممارسة التمارين الرياضية كونها تسهم في تحسين المزاج وتعزز صحة الدماغ. كما أن الحفاظ على التواصل الاجتماعي النشط،  والانخراط في أنشطة ذهنية محفزة، مثل التعلم المستمر أو الهوايات الفكرية، قد يدعم ما يعرف بالاحتياطي المعرفي، وهو قدرة الدماغ على مقاومة التدهور.

النوم الجيد، وإدارة التوتر، والتغذية الصحية، كلها عناصر أساسية كذلك في الوقاية من الاكتئاب. أيضا يلعب الاهتمام بالصحة دورا رئيسيا، فمن الضروري علاج الأمراض الجسدية التي قد تظهر في منتصف العمر بما في ذلك ارتفاع ضغط الدم والسكري.