دروس كورونا للعالم!

دروس كورونا للعالم!
د. أحمد بطّاح
مع انغماس العالم أجمع في مواجهة كورونا لا نستطيع إلا أن نفكر قليلاً ونسأل أنفسنا السؤال الآتي: ما الدروس التي علمها كورونا للعالم؟ وفي سياق الإجابة على هذا السؤال نشير إلى بعض الدروس ولعلّ أهمها:
أولاً: أن العالم الذي ابتكر علم المستقبليات (Futurism) وأنشأ مراكز الدراسات والأبحاث لكي تتوقع له "سيناريوهات" المستقبل لم يستطع أن يتنبأ بفيروس كورونا وها هي الدول كافة تتخذ السياسات والإجراءات يميناً وشمالاً للتعامل مع هذا الخطر غير المتوقع. صحيح أن الأوساط العلمية كانت وما زالت تعرف عن الفيروسات الكثير، وصحيح أيضاً أنها ربما أشارت إلى إمكانية ظهور مثل هذا الفيروس ولكنها بالتأكيد لم تستطع التنبؤ بدرجة انتشاره الهائلة، أو بآثاره المدمّرة التي أوقفت العالم على أطراف أصابعه!
ثانياً: أن العالم كان يعرف أن صحة الإنسان مهمة، وأنها مُقدمة على أيّ شيء آخر، ولكنه لم يدرك كما هو الآن بأنّ الصحة أولاً وأنها مُقدمة، فالعالم اليوم أوقف حركته تقريباً وفي كل المجالات حفاظاً على صحة بني البشر. إنه يرى الخسائر الهائلة التي تتمخض عن هذا الإيقاف الإجباري، ولكنه لا يملك إلا أن يقبل بترتيب أولوياته وعلى رأسها الصحة طبعاً. لقد اكتشف الإنسان لأول مرة وفعلياً وليس نظرياً أن صحة الإنسان وبقاءه على قيد الحياة هو ما يجب الحرص عليه ويأتي كل شيء بعد ذلك.
ثالثاً: لقد دأب العلماء والمختصون على الربط بين السياسة والاقتصاد فمنهم من قدّم السياسة ورأى أنها هي التي توجّه الاقتصاد، ومنهم من رأى أن الاقتصاد هو الأساس فهي (أي السياسة) على رأي لينين "اقتصاد مكثف"، ومنهم من رأى أنهما وجهان لعملة واحدة. ولكن الأمر الذي لم يُناقش من قبل هو علاقة الصحة بالاقتصاد فالمعروف أنّ الاعتناء بالصحة المجتمعية يحتاج إلى اقتصادٍ قوي، وبتعبير آخر فإن تأسيس أيّ نظام صحي فاعل يحتاج إلى اقتصادٍ راسخ، ولكن كورونا طرحت الموضوع بصورة دراماتيكية وغير مسبوقة: الصحة قبل الاقتصاد فعلى حد تعبير "كومو" حاكم نيويورك "لا نستطيع أن نقايض الأرواح بالاقتصاد"، وها هو العالم أجمع اليوم يقبل بشلل كل فعالياته الاقتصادية مقابل أن يحافظ على صحة الإنسان وكأنه يقول: الصحة قبل الاقتصاد.
رابعاً: لقد برز في خضمّ معركة كورونا دور الحكومات المركزية، بل إن كثيرين يرون أن نجاح الصين في مقاومة الكورونا يعود إلى كونها دولة مركزية (Central State)، وإن إخفاق كثير من الدول في مقاربتها لمقاومة الكورونا يعود إلى كونها فدرالية (Decentralized State) كالولايات المتحدة، ومهما كان الأمر فإن من الواضح أن نجاح كثير من الدول – ومنها الأردن طبعاً – في السيطرة ولو جزئياً على الفيروس يعود إلى لجوئها إلى سلطاتها المركزية التي مكّنتها من اتخاذ إجراءات سريعة وفاعلة. إننا لسنا بصدد المقارنة بين النظم المركزية وتلك اللامركزية فلكل منهما مزايا وعيوب، ولكن درس كورونا الآن واضح وهو ان النظم المركزية كانت أكثر نجاحاً في التعامل مع هذه "الجائحة" المسماة كورونا.
خامساً: وآخر هذه الدروس التي علّمها كورونا للعالم هي أن الانضباط السلوكي ممكن، فكثيرون منا كانوا يعتقدون أن الحجر عليهم في منازلهم لأيام وربما لأسابيع مسألة غاية في الصعوبة، ولعل ما يستكشفه الإنسان الآن وفي كل دول العالم أنه يستطيع أن يتحمل أشكال منع السفر وحظر التجول والحجر المنزلي الذي يبقيه وحيداً، أو مع عدد قليل من أفراد أسرته ولمدة طويلة في البيت، بل لقد أصبح الإنسان يتدرب على قضاء وقته في منزله دون أن يخرج إلّا للضرورة القصوى. إنّها مسألة سيكولوجية تتصل بالبنيان النفسي للإنسان وقدرته غير المحدودة على التكيف مع كافة الظروف والمتغيرات، ولعل هذه الميزة "أي القدرة على التكيف" هي أهم ميزات الشخصية الإنسانية.

تابعوا الوقائع على
 
جميع الحقوق محفوظة للوقائع الإخبارية © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الوقائع الإخبارية )
تصميم و تطوير