الجرح بالكف والفساد بلا سقف !

الجرح بالكف والفساد بلا سقف !
بسام الياسين
( بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمالة الاطفال،( .76 ) الف طفلٍ اردني يعملون في مهن شاقة،منهم 45 الفاً في مهن خطرة ) .
* نهض من نومه، معكر المزاج، فاتر الهمة. فاقد الرغبة في العمل.دس يده تحت المخدة.تناول سيجارة وطنية رديئة ثم شرع ينفث دخانها، كأنه يقيم جداراً عازلاً بينه وبين العالم.
عادت به الذاكرة للوراء،عندما طلب منه مدير المدرسة العودة للبيت لامر طارئ.حين وصل وجد اقاربه يتحلقون في ساحة البيت، يكسو وجوههم الحزن،و اصوات نسوة متشحات بالسواد يولولن في الداخل. التفت احدهم وقال لمجاوره: هذا ابنه البكر، كان الله في عونه،ما زال صغيرا على حمل اعباء الاسرة.
مات والده معدماً حتى ان عمال الدفن سامحوه باجرة الحفر و دفع جارهم الجنب ثمن الكفن. رد الآخر :ـ " وما من دابة الا على الله رزقها ". ذكريات مالحة عصفت به، خاصة عندما اهالوا التراب على ابيه، وعاد وحيدا من المقبرة، رغم كثرة الاقارب.صدمة اخرى لم تكن على اجندة توقعاته، زواج امه بعد انتهاء "العدة"، ومغادرتها المنزل مع رجل غريب الى مدينة مجهولة.اضطر لترك المدرسة و العمل في ورشة زوج عمته.رجل تحكمه خصلتان: البخل وبذاءة اللسان، لكن ظروف المضطر تدفعه لاكل الميتة.تحت ضغط الواقع، تمنى لو يملك قوة اسطورية، ليحطم الكرة الارضية مثل بطيخة عفنة، تشي قشرتها الخارجية الخضراء اللامعة غير ما تُخفيه من نتانة.
ذات صبح لم تتوقف تداعيات افكاره الا على صوت اخته، تذكره بتأخره عن الورشة،وسلاطة لسان زوج عمته. غادر البيت بخطى متثاقلة. ما ان دخل باب الورشة حتى استقبله المعلم بوابل من الانتقادات، مصحوبة بزخة شتائم من تحت الحزام. زاد المه، ضحكات الزبائن عندما قال له:ان الرزاز جلس على مكتبه في رئاسة الوزراء واتخذ عدة اوامر دفاع، وحضرتك تجر جسدك مثل بغل ينوء بثقل خيباته، ويتباهى بان الحصان خاله.
سولت له نفسه، ان يسحق راسه بشاكوش كانن قريباً منه، لكنه تذكر اخته واخوية الصغيرين. بلع الاهانة ودخل الورشة لاصلاح احدى السيارات المتوقفة فيها.ما ان بدء بالعمل، حتى جرح كفه جرحا بليغاً بسبب شروده.تنحى في الزاوية، محاولا وقف النزف. شاهده "المعلم "، وظن انه يتهرب من العمل. صرخ عليه «يا حيوان.. الدواب تعمل باكلها، وانت تفرك يديك كأنك فقدت اسطولك في عرض البحر او خسرت ملايينك في البورصة.كظم الشاب غيظه، وغادر الورشة راجعاً للبيت والدم يزرب من يده.شهقت اخته عندما شاهدت دمه وصفرة تكسو وجهه.قامت على الفور بتطهير جرحه وتضميده.حاولت مواساته الا انه القى بجسده على الحصيرة وغط في نوم عميق.
حلم تلك الليلة ان رافعة ضخمة التي تستعمل في بناء الابراج العالية، سقطت على رأس المعلم وهرسته.نهض من النوم تتنازعه مشاعر متناقضة. فرح بنهاية ظالم وحزن عليه كانسان، وفيما هو كذلك. شق سكون الليل،آذان الفجر رخيماً ندياً، فشعر بالسكينة تتسلل الى قلبه.قام وتوضأ وصلى وحينما سجد تساقطت دموعه حتى بللت ذقنه.ظُهراً ذهب لاداء صلاة الجمعة في مسجد الحي، تناولت الخطبة الرفق بالحيوان. كم تمنى ان تكون عن الرفق بالانسان. عندما انفض المصلون تقدم نحو الامام، صافحه واحس برغبة في تقبيل يده،تعويضاً عن فقدان الاب.انحنى لكن الامام سحب يده واحتضنه.
بادب سأله الشاب عن حكمة خلق الحيوانات فاجاب الامام: يا بني انها مخلوقات سخرها الله لتكون مطايا للركوب، ووسائل للحراثة. رد الشاب:مهمات انتهت يا سيدي، بعد اختراع الحافلات والتراكتورات. كتم الشيخ ضحكة وقال: نعم :ـ "ويخلق ما لا تعلمون". قال الشاب ما دام الامر كذلك: اليس الظلم الاجتماعي،الاضطهاد الطبقي،الفساد الاخلاقي،الاستغلال الوظيفي،جرائم محرمة شرعاً ؟.ولماذا يستغل المتنفذون ظهورنا ويستعبدون ارواحنا.لقد اصبحنا بدائل للحيوانات،فيما خيولهم تأكل الفستق وتتحلى بالشيكولاته وتشرب الماء المعدني،ونحن نعيش على الكفاف، ونموت بالتقسيط.الم تسمع ـ ياسيدي ـ عن قططهم المدللة، وان كلباً من كلابهم المعطرة يأكل لحوماً مستوردة اضعاف ما تصرفه عائلة فقيرة.
قبل ان ينهي الشاب كلامه، اختفى الامام،كأن ريحاً حملته بعيداً. تمتم الشاب: يبدو ان شيخنا الجليل يكره المنطق ويظن :ـ "أن مَنْ يتمنطق يتزندق".

 
تابعوا الوقائع على
 
جميع الحقوق محفوظة للوقائع الإخبارية © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الوقائع الإخبارية )
تصميم و تطوير