د.نزار حداد يكتب ..عــــــونـــة زيــتــــون

د.نزار حداد يكتب ..عــــــونـــة زيــتــــون
الوقائع الإخبارية: د. نزار جمال حداد- مدير عام المركز الوطني للبحوث الزراعية

drnizarh@gmail.com
أذكر زمناً معبقا برائحة الدسم، كانت قطرات المطر المعانقة للأغصان والوريقات الخضراء تحدِّد ساعة صفره وتؤشر إلى بدايته، وكل قطرة ماء تَغسِل الحبات الخضراء، لتسقط على التراب العطش، وتفوح منه رائحة الحناء. تتحرك آنية المطبخ لتدعم النقص الحاد بالأوعية.

تسحب المفارش من فوق السِدة ومن جوانب المستودعات، وتعد عصي طويلة غضة رفيعة حنونة، تُكنّى واحدتها دلعاً "شاروط”، تربط على الرؤوس الأشمغة، تُعد العُدة وكأن طوفان عارم يجتاح المنطقة ويهرع الجميع في "عونة” قطاف الدرر الخضراء، تعتلي الجدة قهقور حجر مطل على البستان، تُترِعُ إبريق الشاي على الحطب بماء النبعة المجاورة، وتعطره بوريقات النعناع، لتجمع حولها أحفادها لتعلمهم فلسفة قطاف الزيتون. فالأمر ليس مجرد جمع ثمار؛ فهنالك أعراف وتقاليد، تحدد الغاية من كل الثمرات الملقّطة، وتوضّح مصيرَها سواء لتخليل الزيتون الأسود أو الأخضر، أو ذاك الذاهب إلى المعصرة لعصر الزيت.

يا ولد دير بالك:
الشجرات ياللي هناك إسمها "نبالي محسن”، إجمع الحبات المتلونات بالأخضر الفاتح و ياللّي مالت للبني شوي، هاي رصيع للتخليل، وافصل الحبات المريضة عنها، واجمع الكبير والمتوسط الحجم بجنب، هاي خير الثمرات للرصيع، ويمكن تشطيبها بالسكين، أو تندق شوية بالحجر لتكبس وتتخلل. وهذيك المتلونة بالأسود اسمها "نصوحي جبع 2″، وهاذا اسمه "رصيعي”، إفرز الحبات ياللي اسودّت كلها لرصعها بزيت الزيتون والليمون، وأوعك إنها تنصاب بأي خدش، هي غاليات زي الدرر، تنشطب بالسكين وبتتعامل بالملح قَدَر أربعين يوم، ومنشيل ميتها قبل رصعها.

واسمعي با بنت:-
لما تشوفي الثمرات تلونت خدودها بلون البنفسجي، وِن فتحتيها ولقيتي لبُّها كله ملوّن بهاظا اللون تكون استوت وبدها قطاف. وكل ما اكتمل نضجها زاد فيها الزيت، وبظلو يزيد في الحبات، وِن تأخرتي عليها قبل جمعها لعصرها بتحسي إنه فيها زيت اكثر، لكن هاظا مهو صِحيح، لأنه زيادة تركيز الزيت بكون على حساب الميه ياللي بتطلع منه. وهيك بتكون الزيادة في نسبة الزيت ماهي حقيقة. ولما يكون ثلثين زيتون الشجرة تلون كله بلون البنفسجي التقيل، أو الأسود، بكون إجا وقت قطافها. وأحسن الأصناف للزيت في كرمنا: صنف النبالي البلدي، والصوري، والرصيعي، والقنبيسي.

أشربوا الشاي، وأسمعوا جميعاً هذا الكلام يا عيال:

اولا، إجمعوا الزيتونات ياللي مالها حظ، وسقطت مبكرة على الأرض، وزيدوا فوقها الحبات المبين عليها إنها انصابت بذبانة الزيتون حتى تنعصر لحالها، ونصنع من زيتها الصابون، ولا تخلطو زيتها بزيت الحب السليم. وقبل ما تقربوا من الشجرة لتجمعوا ثمرها، افرشوا المفاروش و الشوادر تحتها، وكياس الخيش، عشان يسقط الثمر المستوي على الفروع العالية عليها، بعد نكشها بالشاروط، وهاي المفارش بتحافظ على الحبات نظيفة من التراب..

إعرفوا دايما بأنه حب الزيتون طري وما بحب الدفاشة، ولا بحب إنه ينخدش، ولا إنه ينضغط ، ولا بتحمل الحرارة العالية. وِنن نجرح بتخمر وبتلف زيتها وبزيد حموضته وبنزل نوعيته. ولا تستعملوا العصاية الغليظة لما تضربوا الفروع، لأنها بتئذ الأغصان والحبات، وبتكسر الفروع، ياللي رايحة تحمل حبات الزيتون في السنة الجاية. وِن ما قدرنا نوصل للحبات العالية منستعمل السيبة حتى نوصللها، أو منتركها للكبار ليقطفوها.

واجمعوا الزيتونات كل صنف لحاله، وما تخلطوا بين حباتهم، لأنه لكل صنف زيته بختلف عن الثاني، ونقوا الثمر من الورق، ولا تعبوها في الشوالات والكياس البلاستيكية حتى لا تتلف من الحرارة. حبات الزيتون حية وبتتنفس، وِن ما لقيَت متنفس إلها بتتعفن وبترتفع حموضة زيتها وبتنزل جُودته. عشان هيك حطوها في الصناديق المفتوحة، وفي مكان مظلل. وهي ما راح تضل هناك كتير؛ لأنه دورنا في المعصرة محجوز من إيام. والعصر إن شاالله راح يكون على البارد، يعني بحرارة ما تتطلع عن 30.

وهكذا.. تدمدم الجدة وتغني بين الفينة والأخرى:
زيتونتي أطيب عروس
ما بتتثمن بالفلوس
تحميني من الفقر والبؤس
ومن شر اليوم العبوس
وتارة تميل طرباً تترنم:
يا واردة المزراب تنك الزيت يمليها
ويلّي إلها خليل ربي من فوق يحمي ليها
وإن عصف بها عناء العمل قالت: "زيتك طيّب والْقاطك يشيّب”
وإن سئِمت من تسكع بعض الشباب، غنت بصوت مرتفع: "يا شباب الرينة كل عشرة بقُطينة”.
جميلة تلك الأيام الخوالي المفعمة بالنشاط والحيوية، واللحُمة والفزعة للعونة الحقيقية، كانت تختتم تلك الأيام بعد قطاف الزيتون وعصر الزيت بتقليم الأشجار وإزالة الأفرع الجافة. وتسميدها بالسماد العضوي قبالة دخول الشتاء بشكل كامل.

لم يبق من تلك الأيام سوى بعض شجر الزيتون، وتحول الكثير منه حطباً للمواقد الفارهة. غاب صوت الجدة، وغابت أهازيجها، وغاب إبريق شاي الحطب المعطر برائحة النعناع. ولم يعد الجيل الصاعد يرى عبق الطيون وصُفرة أزهاره جاذباً. وكبر الصغار. ومع الأسف تكبّر كثير منهم على حنان غصن الزيتونة، وأصبح متعهدو قطاف الزيتون بالضمانة هم سادة الموقف. هم يأخذون المحصول لنحصل نحن على حفنة من المال. ولم تعد الصبايا تجد في رصع الزيتون إبداعاً، فأظافر "الفرنش” لا تتحمل فرط الزيتون ولا رصعه، ألى أين نسير يا ترى وما هو المصير.

فهل من "عونة” تعزز الثقافة الوطنية والمواطنة، ليصبح درس فراط الزيتون عند الفلاحين جزء لا يتجزاء من المنهاج الدارسي، يُلزم فيه طلبة المدارس بالعمل المجتمعي التطوعي لدعم المزارعين في جمع محصولهم، فيحتسب ذلك لهم في تحصيلهم العلمي، ويعزز روح المواطنة وعشق تراب الوطن.

تنويه : نعيد نشر مقالات الدكتور نزار حداد القديمة بمناسبة موسم قطف وعصر الزيتون محليا.


 
تابعوا الوقائع على
 
جميع الحقوق محفوظة للوقائع الإخبارية © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الوقائع الإخبارية )
تصميم و تطوير