أحمد السوداني.. رسام عالمي بجراح عراقية
الوقائع الاخبارية : على مر التاريخ عالج العديد من الرسامين موضوع الحرب بطرق شتى في لوحاتهم، فالبعض أشار لها على أنها فراق الأحبة والانتظار المر لعودتهم سالمين، وآخرون عالجوها على أنها واجب وطني وشجاعة كبيرة من أي إنسان أن ينضم لها، وفريق ثالث عالجها كفوضى عارمة تخل بطبيعة الحياة ولا تخلف وراءها غير أرواح معذبة وأشياء مدمرة ومسحوقة سحقا، ومن ضمن الفئة الثالثة يأتي الرسام العالمي أحمد السوداني.
فمن هو أحمد السوداني؟ ولد أحمد السوداني عام 1975 في بغداد بالعراق على الرغم مما يفرضه الاسم من حكم مسبق، وفر منه مع أسرته في منتصف التسعينيات أثناء حرب الخليج إلى سوريا ومنها إلى الولايات المتحدة، وهناك حصل على ماجستير الفنون الجميلة في الرسم عام 2008 من جامعة ييل.
جاءت انطلاقة السوداني الدولية في عام 2011 عندما تم اختياره لتمثيل العراق لأول مرة في معرض بينالي البندقية الـ54، ثم بعد عام واحد تم اختياره لسلسلة "ماتركس" (Matrix) في متحف "وادزورث إثينيوم للفنون" (Wadsworth Atheneum Museum of Art)، وبعد ذلك عرض أعماله في متحفي فينيكس وبورتلاند للفنون في عام 2013.
الرسم كوسيلة للتعبير عن عدم اليقين
اشتهر أحمد السوداني بلوحاته ذات الألوان الزاهية والتراكيب السريالية والدلالات النفسية، وتكون تلك اللوحات عادة مصنوعة من الأكريليك والفحم، ويصور فيها السوداني العديد من الوجوه المشوهة والأعضاء المنفصلة أو المبتورة عن الجسد البشري غارقة وسط مخلفات عدة، مثل صفائح القمامة والثياب الرثة، وأحيانا دمى مشوهة.
يرى السوداني أن الخوف من الفوضى قد يكون ببساطة ردنا على العيش في عالم تسيطر عليه قوى قوية تتجاوز فهمنا، وهذا ما يدفعه لأن يثير في لوحاته مشاعر الاضطراب والفضول والتوسع التي يستشعرها كقوة خفية وخبيثة في كثير من الأحيان تدفع بالعالم نحو الحروب والدمار.
ففي لقاء له مع دورية "فايدون" (phaidon) الفنية العالمية سأله المحاور: لماذا تظهر لوحاتك متشظية ومفتتة إلى هذا الحد؟ فأجاب السوداني قائلا "هكذا أرى العالم من حولي، كل لوحة لها صراعها الخاص".
وعلى الرغم من أن أحمد السوداني لم يكن شاهد عيان على غزو الولايات المتحدة للعراق في مطلع القرن الحالي فإنه يرسم عوالم شتى من الفوضى والجنون والألم والمعاناة مستوحيا أعماله من العصر الدموي الذي وجد نفسه فيه، فقد هرب مع عائلته من العراق بسبب حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق (1980-1988).
تجربة الفرار تلك تنعكس في أعماله في شكل شخصيات هجينة مثقوبة بالجروح متشرذمة مبتورة ومليئة بالتمزقات.
بين الفوضى والرهبة
بالنظر في لوحته "طيور" المرسومة عام 2015 نرى أن السوداني يقدم دلالات نفسية ورمزية على طبيعة الماضي القاتم الذي لا يزال يطارد الحاضر ويؤثر فيه، الطيور خارج أعشاشها معلقة على أغصان لا تشبه أغصان الشجر الطبيعة، والثيمة العامة لموضوع اللوحة توحي بعدم الاستقرار، أما فضاء اللوحة فمحموم بألوان حارة وملتهبة لا تمت بصلة لما تفرضه حياة الطيور الطبيعية من سلام وسكينة، كذلك يمكن استشعار الرمزية التي تؤول لها اللوحة ككل، الطيور المعلقة خارج أعشاشها قد تكون رمزا للهجرة واللجوء السياسي الذي عانى منه السوداني وعائلته.
"إنه يخوض معركة مع الرسم والتلوين" (مارك بيسير مدير متحف بورتلاند للفنون)
يسحق أحمد السوداني كافة العناصر محل التشكيل والرسم في اللوحة ويعيد خلطها ونشرها على قماش اللوحة مرة أخرى، وتظهر العناصر بعد عملية السحق والخلط تلك محملة بدلالات مأساوية للغاية عن بصمة الحروب: طيور مقتطعة من بيئتها الطبيعية متشظية ومتناثرة دون مأوى.
القومية العربية كإرث سريالي
تفتح لوحات السوداني كذلك بابا غير قابل للإغلاق كليا كما يقول المؤرخ الفني سايمون مورلي، لا يتنازل السوداني مطلقا عن قوميته العربية في لوحاته، ومع ذلك يقدمها محملة بالكثير من الدلالات المتراكبة والتي يمكن قراءتها في ثنايا اللوحات، مثال ذلك لوحته عن صورته الذاتية المرسومة عام 2013.
نرى في اللوحة صورة من الأبيض والأسود نزع عنها الغطاء يمسك بها حيوان مشوه في محيط من الملابس القديمة والدمى المخيفة والأنابيب المعدنية التي تخترق أجسادهم وما في ذلك من دلالات على التشظي وعدم الاستقرار والغموض، وتثير اللوحة شعورا بالتوتر، خاصة مع الألوان الحارة والبراقة، ونتيجة لذلك يستطيع المشاهد أن يلمس إحساسا بالاحتدام والعنف في فضاء اللوحة.
"التعبير عن الطبيعة المراوغة للإدراك من خلال الأشكال العائمة والسائلة وحتى مع الغاز واللهب والضوء يجعل عدم الاستقرار والفوضى فرصة في حد ذاتهما لتوسيع تصوراتنا عن الترابط بين المعرفة والحدس والروحانية" (متحف متروبوليتان الأميركي)
ويرى السوداني أن هناك طبقات عميقة من الذكريات حاضرة ومتراكبة فوق بعضها البعض في رسومه، ويؤكد أيضا في لقاء مع معهد الفن المعاصر في البندقية أنه بالنظر إلى السطح يستطيع المشاهد أن يرى الحرب والتعذيب والعنف.
لكنه يعود ويؤكد أن لوحاته ليست تعبيرا عن جروح العراق وحده وإن كانت هي الحاضرة في ذهن الرائي منذ الانطباع الأول، فهو إنما يستعرض الذاكرة الإنسانية كمكان فوضوي يعج بالتفاصيل والعناصر غير المترابطة، ومع ذلك فهي تؤثر أبلغ الأثر على الحاضر والمستقبل.