تحت القصف.. فنان أوكراني يعزف لحن الحياة والأمل في شوارع وأنفاق كييف
الوقائع الاخبارية : دارت رحى الحرب واشتدت المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا ووُلدت قصص مؤثرة من رحم المعاناة والخوف تحت القصف. وفي شوارع العاصمة الأوكرانية كييف وداخل ملاجئها في محطات المترو، يتحدى المغني والعازف جوريج فيدينسكيج الوضع المحفوف بالمخاطر من أجل لقاء المواطنين وتعزيز معنوياتهم وانتشال بصيص الأمل من تحت أنقاض اليأس.
لا يحمل في جولاته -التي يقوم بها صحبة مجموعته المكونة من 4 أفراد- البنادق بل آلة الكوبزار، وهي آلة وتريّة موسيقية تشبه العود العربي.
التاريخ يعيد نفسه
دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الثاني وغيرت ملامح المدن الأوكرانية ودفعت الملايين إلى الفرار للنجاة من الموت. وبين هذا وذاك، قرر فيدينسكيج إرسال أطفاله الأربعة وزوجته الحامل في شهرها الثامن، في حين اختار لنفسه البقاء في كييف والمواجهة بطريقته الخاصة.
نشأ العازف في مدينة رالي -بولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة الأميركية- لنحو 23 عاما قبل أن ينتقل للاستقرار في أوكرانيا، فجذوره العميقة لم تتخلّ عنه مطلقا وعلمته عشق نغمات الموسيقى الروحانية بكل ذكريتها المؤلمة.
يقول فيدينسكيج للجزيرة نت إن قصة عائلته تعود لعام 1709 عندما أجبرت على مغادرة منطقة بولتافا بعد انتصار الجيش الروسي، بقيادة بيتر الأول، على جيش تشارلز الثاني عشر السويدي في "معركة بولتافا".
وقد أدت هذه المعركة آنذاك إلى إحداث نقطة تحول في الحرب الشمالية لصالح موسكو واقتلاع جذور عائلته لأكثر من 300 عام "لقد ولدت في الشتات، بعيدا عن أوكرانيا لكن جيناتي جعلتني أدرك دائما أنني أنتمي للوطن".
في الماضي، تشكلت وحدات عسكرية أطلق عليها اسم "القوازق" حملت السيوف والبنادق في حرب التتار الغزاة في مناطق نهري الدنيبر والدون بشرقي أوكرانيا وغربي روسيا، وكانت في الأصل مكونة من الجنود الفلاحين الذي يعيشون هناك. وكانت آلات المطربين المتجولين المعروفين باسم "كوبزاري" ترافقهم في القتال وتردد أغاني روحية.
ويشبّه فيدينسكيج ما يحدث حاليا في أوكرانيا بما كان يفعله "القوازق" المتمثلين في أفراد الجيش الأوكرانية والمواطنين العاديين الذين تطوعوا للمشاركة في الحرب، وأن ما يقوم به -بوصفه عازف كوبزار- من أجل إحياء وتعزيز التقاليد القديمة في خدمة الشعب والقوات الوطنية.
فلسفة الموسيقى والمقاومة
بمساعدة من أفراد الجيش الأوكراني، يتجول العازف فيدينسكيج في ملاجئ ومحطات مترو كييف وضواحيها لمساعدة الشعب الأوكراني من خلال موسيقى كوبزار وأغانيها التي تحكي عن التاريخ والأمل والحرية وفلسفة الحياة. كما يقوم بتوثيق تحركاته في منشورات عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
ويقول للجزيرة نت: "أعزف مع طلابي هذه الموسيقى الإيجابية للتخفيف من وطأة الحرب على اللاجئين في قطارات الأنفاق التي تستخدم ملاجئ من القنابل. لدى بوتين أسلحة ذرية، لكنني أملك سلاح الكلمة والألحان وإيمانا بالله الذي لن يسمح لروسيا أن تدمرنا".
وتابع بابتسامة لا تفارق وجهه: "لدي أخطر سلاح في أوكرانيا، إنها توربانز (آلة موسيقية) النووية!"
يعزف فيدينسكيج على الآلات الوترية توربانز وكوبزاس وناندورا، ويصفها بأنها أدوات تدعو إلى نشر المحبة واستنهاض روح المقاومة بين الناس للدفاع عن بلدهم، وهي أمور لا يمكن لبوتين أن يفهمها، على حد تعبيره.
إحياء التقاليد الأوكرانية
لطالما كان جوريج فيدينسكيج مهتما بالفولكلور التقليدي والجاز والموسيقى الشعبية، وتعلم في الـ16 من عمره عزف وصناعة الآلات الوترية التي ورثها عن أجداده.
وقبل بداية الحرب على أوكرانيا، سافر في جميع أنحاء العالم الغربي عدة مرات لممارسة تقليد كوبزار على أمل إحياء الأغاني التاريخية التي دُمرت آلاتها منذ صعود ستالين وسيطرة الاتحاد السوفياتي على البلاد.
ويعتبر الناشط السياسي والشاعر تاراس شيفيتشينكو (1814ـ1861) أحد رواد كوبزار. وقد قام المفكر اللبناني ميخائيل نعيمة، الذي درس في مدينة بولتافا الأوكرانية، بترجمة بعض أعماله الأدبية مثل قصيدة "الميثاق" الشهيرة.
وفي عام 1902، نشأت فكرة توثيق موسيقى الكوبزار والأغاني الشعبية من خلال التسجيل الصوتي. كما تم تنظيم المؤتمر الأثري الثاني عشر في مدينة خاركيف، التي كانت جزءا من الإمبراطورية الروسية آنذاك، للتعريف بالموسيقى الشعبية الأوكرانية.
يقول فيدينسكيج: "نتجول في كييف بدون أسلحة، وأخطط للسفر عبر أوكرانيا إذا أمكنني ذلك. لسنا خائفين لأننا نؤمن بالله والحب والموسيقى".
ويضيف متفائلا: "لا أعتقد أن كييف ستسقط. إنها مرحلة ضرورية تمر بها أوكرانيا للعودة بشكل أفضل في عالم حر، ولإعادة موسكو إلى مكانها الطبيعي، حتى لا تكرر ما تفعله الآن مع دول أخرى لأن أيامها قد ولت بالفعل. واليوم، أغني لأولئك الذين تم إجلاؤهم حتى أذكرهم بكل هذا".