"كناوة".. رحلة موسيقى الحرية من معاناة الاستعباد إلى رحابة الإرث الإنساني

كناوة.. رحلة موسيقى الحرية من معاناة الاستعباد إلى رحابة الإرث الإنساني
الوقائع الاخبارية : اهتزت جنبات مسرح محمد الخامس في العاصمة المغربية -ليلة 23 يونيو/حزيران الجاري- على أنغام موسيقى "كناوة"، ورددت حناجر عشاق ومحبي هذا الفن الموسيقي الخاص مع المعلم حميد القصري (من رواد الفن الكناوي) نداءات من عمق تراث إنساني يمتد إلى قرون خلت، مع إيقاع يلامس المشاعر، عُدّته "الكنبري" (آلة وترية للعزف يحملها المعلم وتدل عليه) و"القراقب" (آلات حديدية جرسية تحمل بالكفوف)، لتمتزج بعدها بإيقاع الجاز العالمي في سمفونية حلقت بالجمهور في عوالم موسيقى روحية متعددة الأبعاد.

جولة كناوة
بفرحة غامرة، يحضر الشاب عادل. ك (26 سنة) إلى مسرح محمد الخامس غير آبِه لسعر التذكرة. يقول للجزيرة نت "كناوة موسيقى ونمط يعجبني أحب كلماتها التي تلامس المشاعر". فيما اغتنمت مروة (23 سنة) فرصة القرب لحضور حفل "كناوة" بالرباط، معبرة للجزيرة نت عن فرحها وفخرها بحضور فعاليات مهرجان "كناوة" الذي وصل إشعاعه للعالمية.

وأسدل الستار الجمعة 24 يونيو/حزيران الجاري على فعاليات النسخة الثالثة والعشرين من مهرجان "كناوة موسيقى العالم" الذي تم تنظيمه في جولة موسيقية منذ 3 يونيو/حزيران في الصويرة ومراكش والدار البيضاء ثم الرباط، استضافت خلالها حوالي 121 فنانا من ضمنهم 33 معلما و26 فنانا عالميا.

يقول المدير الفني لمهرجان "كناوة موسيقى العالم" عبد السلام علي كان، للجزيرة نت، "ارتأينا الذهاب بالمهرجان للقاء الجمهور، لصعوبة جمعه بالصويرة بسبب ظروف الوباء رغم التخفيف".

وحملت طائفة "كناوة" في البدء معاناة الاستعباد، وصرخت معبرة عن الرغبة في التحرر والاندماج، وغدت موسيقاها اليوم إرثا إنسانيا للبشرية! فما الذي يميز "كناوة"، وما قصتها وتاريخها؟

تراث إنساني
يعتبر عادل أن "كناوة" نمط موسيقى أصيل لا يشبه باقي الأنماط الموسيقية، "يبدو بعيدا عن عوالم الفن الحديث لكنه قريب منها".

وموسيقى كناوة من التراث المغربي الذي اعترفت به منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تراثا إنسانيا ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي.

وجاء في بيانات اليونسكو أن مصطلح "كناوة" يشير إلى مجموعة من الأعمال الموسيقية والعروض والممارسات الأخوية والطقوس العلاجية، وهي قبل كل شيء موسيقى أخوية صوفية مرتبطة عمومًا بكلمات ذات طابع ديني، تستحضر الأجداد والأرواح. وتضيف اليونسكو أن "كناوة" توفر لأتباعها وممارسيها إحساسًا قويًا جدًا بقيمة الهوية داخل المجتمع.

وتشكل "كناوة" جزءا من العديد من جوانب الهوية الثقافية المغربية. يقول الفنان حميد القصري، للجزيرة نت، "أينما ذهبنا في العالم نجد استقبالا وترحابا، موسيقى كناوة لديها قيمة عالمية، ومن لا يعرفون ما نقول تصلهم الموسيقى ويتمتعون بها".

صرخة الحرية
تعتبر موسيقى "كناوة" اليوم موسيقى الحرية ورقصتها رقصة تحرر من أي تملك، وهناك روايات تقول إن إيقاع الحديد الذي تحدثه القراقب مستوحى من إيقاع السلاسل والأغلال التي كانت توثق العبيد في الماضي لحظة الاحتجاج أو لحظة التواصل بينهم.

يقول حميد القصري، للجزيرة نت، "هي موسيقى الحرية، ولّى وقت العبودية والكل اليوم يعبد الله تعالى".

وتعود ثقافة "كناوة" في الأصل إلى مجموعات وأفراد من العبودية وتجارة الرقيق التي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر على الأقل.

وجاء في كتاب "فاس قبل الحماية الجزء الثاني" لروجى لوطورنو، إن "الطوائف الشعبية غالبا ما يستدعيها خواص لإعطاء بهاء لحفلاتهم العائلية (…) وكانوا يتصلون أيضا بِكناوة (غينيا)، فالأمر يتعلق بزنوج كانوا قد وفدوا بكثرة على المغرب ابتداء من القرن السادس عشر (…) ولم تكن طائفة كناوة تقبل كأعضاء سوى السود".

يوضح المختص في التراث الثقافي المادي واللامادي عبد الرحيم البرطيع -للجزيرة نت- أن كلمات أغاني كناوة تستحضر ماضي الاستعباد والتهجير، ففيها آهات وصيحات وإشارات بلغة عربية وأمازيغية وعامية ولغات جنوب الصحراء غير مفهومة أحيانا، لكنها ترمز للألم والمعاناة.

ويضيف أن الكلمات فيها أيضا الجانب الديني كالصلاة على الرسول واستحضار سيدنا بلال مؤذن الرسول، الذي أطلق أهل "كناوة" اسمه على زاويتهم بالصويرة.

مزج وخصوصية
دخل فن "كناوة" من مناطق جنوب الصحراء المغرب على مراحل مختلفة وحملوا معهم أهازيج امتزجت بالثقافات التي كانت سائدة بالمغرب.

ويرى عبد السلام علي كان "أن الرافد الأفريقي من جنوب الصحراء حاضر في المجتمع المغربي من زمان، في علاقة غير محدودة تاريخيا".

ويوضح علي كان أن المغرب كان فيه نشاط آخر يتمثل في الزوايَا الحمدوشية والعيساوية والقادرية، وبالتالي استوحت "كناوة" من الطوائف، والطوائف الأخرى أخذت منها فنيا، فحدث تأثير متبادل.

ويؤكد علي كان أن "الريبرتوار" (الذخيرة الفنية) الموجود اليوم وكلمات الأغاني والألوان تركيب مغربي، مشيرا لوجود تركيب الفن الكناوي في كل المغرب، وفيه مزج بين الحمولة الثقافية القديمة وبين الطوائف المغربية.

ورغم الانفتاح الذي تشهده موسيقى "كناوة" والإقبال على مزجها مع مجموعة من الإيقاعات العالمية خصوصا الجاز والبلوز، تحتفظ كناوة بعمق ثقافي وخصوصية، إذ يعتبر الخبراء في هذه الثقافة أن الموسيقى الكناوية ما هي إلا جزء، يكتب اليوم على شكل نوتات ويمكن أن يعزف في أي مكان من العالم، لكن روح "كناوة" وعمقها يبقى محفوظا.

تجذر ووراثة
"كناوة" من حيث كونها فنا وطقسا، لا تُدرس في المعاهد الموسيقية بل في الطرق التقليدية عن طريق المْعلم (رئيس الفرقة)، ويتحدث العارفون عن "صنعة" لها معان ثقافية متعددة وعميقة، تورث بالتدريب والتلقين.

وتقول اليونسكو إن "كناوة" عنصر متجذر بعمق في الممارسة المجتمعية وانتقاله مضمون، حيث تنتقل المعرفة المرتبطة بثقافة "كناوة" بشكل غير رسمي داخل الأسرة أو في الدائرة الاجتماعية القريبة من عائلات "كناوة".

وبحسب عبد الرحيم البرطيع، فإن كل المتدخلين في الفن الكناوي والمسؤولين واعون لأهمية الحفاظ وتشجيع المعلمين لتكوين شباب جدد على طريقة الكناوية الأصيلة، وفي الوقت نفسه إبراز فن "كناوة" وفق ضوابط منها الاشتغال في منصات تتطلب تقنيات معينة وتحتفظ فقط في الجانب الاحتفالي من هذه الثقافة.

ويضيف "روح كناوة هي الخصوصية، ولا بد من الحفاظ عليها كي لا تنصهر وتتلاشى".

ويمر متعلم "تكناويت" بمراحل معينة ليصير معلما ويتم الاعتراف به، وذلك عبر المصاحبة من الصغر، والمساعدة والانخراط بالقراقب وحضور ليالي الحضرة، ثم ضبط الموسيقى والحركات.

ويقول حميد القصري "المعلم بلا شيخ جبْحو خاوي (رصيده فارغ)"، ويستمر في شهادته للجزيرة نت "كنا لا نسمع تكناويت إلا في الليالي، وكنا نذهب لليلة ونعمل فيها، يجب أن تبذل مجهودا وتكون طائعا ومتواضعا ومنضبطًا، كقواعد الجندية".

ويضيف القصري "منذ كنت طفلا في التاسعة من عمري وأنا في هذه الحال، تعلمت بالسمع، وتعلمت بالجولان".

ويتم الاعتراف بالمعلم في عُرف "كناوة" عبر تسليم رئيس الفرقة للمتعلم الكنبري الخاص به وتقديمه للعزف في الليلة، ومن ثمة يعترف به باقي المعلمين.

تابعوا الوقائع على