أفلام آن ماري جاسر.. سينما تحارب الصهيونية بلا سلاح
الوقائع الاخبارية : تبرز في السينما الفلسطينية عدة أسماء لمخرجات استطعن إثبات موهبتهن في ظل ظروف إنتاجية ومعيشية خاصة للغاية، منهن نجوى نجار ومي المصري، وآن ماري جاسر التي عُرضت أفلامها في أهم المهرجانات العالمية، مثل كان وبرلين ولوكارنو.
مشاهد أعمال آن ماري جاسر لا تستطيع أن تفوتك سماتها السينمائية الخاصة، فهي سينما فلسطينية حتى النخاع معنية بقضية بلدها، لكن في الوقت ذاته تقدم أفلاما ذات مذاق مختلف، لا تتحدث عن الاحتلال مباشرة لكنه حاضر في شخصياتها التي تعاني لعيش حياة اليومية طبيعية.
شخصيات تتوق لفلسطين أرض الأجداد
أكثر الوجوه المتكررة في أفلام آن ماري جاسر هي للممثل الفلسطيني صالح بكري الذي ظهر معها في "واجب" و"لما شفتك" و"ملح هذا البحر" بشخصيات متنوعة لكنها تحمل السمات ذاتها التي تؤصل لسينما المخرجة نفسها.
في فيلم "واجب" صالح بكري هو الشاب الفلسطيني المهاجر إلى إيطاليا والعائد إلى بلاده للمساعدة في تنظيم عرس أخته، يبدو ظاهريا ناقدا لكل تفصيلة تقع عليها عيناه، لكن في الحقيقة وراء هذه الكلمات القاسية حب مجروح لإجباره على المغادرة خوفا على حياته بعد إنشائه ناديا للسينما مع أصدقائه يركز على الأفلام ذات الطابع السياسي، الأمر الذي أزعج السلطات الإسرائيلية.
وفي فيلم "ملح هذا البحر" نتعرف على نسخة من صالح بكري أكثر شبابا منها في فيلم "واجب"، هنا هو أيضا عاشق لتراب بلاده، يعيش في الجزء الفلسطيني منها، وهو ممنوع من زيارة أرض أجداده، لكن يقوم بمغامرة مجنونة مع حبيبته الفلسطينية الأميركية ثريا العائدة إلى بيت جدها في يافا المدينة المحرمة عليهما، يتسللان إلى المدينة، يسكنان في كهف بالقرب من الدوايمة، البلدة التي جرت فيها مذبحة راحت ضحيتها كل عائلاتها الفلسطينية.
تحاول ثريا استعادة بيت جدها الذي تعيش فيه مواطنة تنتمي إلى الاحتلال، لكن "عماد" هنا كذلك يتوق للهجرة، يعلم أنه لا يستطيع أن يحب بلاده كما يجب وهو محبوس داخلها، حتى حلم الفرار يصبح مستحيلا فلا يرتاح للبقاء ولا يستطيع الهرب.
في فيلم "لما شفتك" -الذي تدور أحداثه عام 1967- يظهر صالح بكري في شخصية "ليث" المجاهد الفلسطيني الذي يعيش على حدودها في أحد معسكرات المقاومة، يرى بلاده من بعيد، لا يستطيع دخولها إلا متسللا، يتحد مع بطل الفيلم الطفل "طارق" في رفضهما عيشة اللاجئين، يفضلان البقاء في الغابة على بعد خطوات من فلسطين على أن يعيشا حياة أكثر أمانا في بلاد أخرى.
تتحد الشخصيات التي قدمها صالح بكري وباقي شخصيات أفلام آن ماري جاسر في أنها حتى لو تحيا في فلسطين فهي تتوق إلى نسخة أخرى من بلادها، نسخة حرة ربما لم يعرفها سوى أجدادهم، لكنها حية في داخل كل جيل.
سينما الطريق على هامش الحرب
فيلم "الطريق" أحد الأنواع السينمائية غير الشائعة في الوطن العربي بالشكل الكافي، فيه يقوم الأبطال برحلات عبر الطريق يستكشفون خلاله ذاتهم، سواء عبر العثرات التي يلاقونها أو الشخصيات التي يقابلونها.
لكن سينما آن ماري جاسر تنتمي في أغلبها إلى أفلام الطرق، سواء "واجب" الذي دارت أغلب أحداثه في السيارة التي تجمع بين الابن العائد والأب خلال توزيع دعوات الزفاف، أو "ملح هذا البحر" والرحلة التي قامت بها "ثريا" و"عماد" لزيارة يافا، أو "كأننا عشرون مستحيلا" الفيلم القصير الذي تدور أحداثه في سيارة تضم أفراد تصوير فيلم سينمائي يعبرون الحدود وتوقفهم دورية إسرائيلية تمنعهم وتنكل بهم فقط لأنهم فلسطينيون.
تسمح أفلام الطريق بالتركيز على عدد محدود من الشخصيات في الفترة الزمنية الخاصة بالفيلم، وتكثف كذلك العقبات التي يلاقونها، والتي قد لا يسمح السرد العادي بعرضها بالكامل.
والعدو الإسرائيلي حاضر في كل هذه الأفلام كظل أسود لا تتم مواجهته بصورة مباشرة، لكنه في فيلم "كأننا عشرون مستحيلا" يصبح العائق ضد استكمال رحلة تصوير الفيلم بسخافة الجنود واستخدامهم سلطتهم فقط لأنهم يمتلكونها أمام أشخاص عزل لا يرغبون سوى في تصوير فيلمهم.
وفي "واجب" لا يظهر تقريبا سوى الحديث الغاضب بين الأب وابنه بشأن دعوة أحد معارف الأول الإسرائيليين والذي كان السبب المباشر لسفر الابن عندما نصح الأب بتهجيره لنشاطه السياسي المتوقع، مما يراه الابن وسيلة ملتوية للإسرائيليين للتخلص من أبناء الأجيال الفلسطينية الجديدة لمنع بقائهم في أرضهم.
أما في "لما شفتك" فالوجود الصهيوني موجود في كل مكان، غير مرئي مثل هواء مسمم يضطر أبطال الفيلم لتنفسه، فهم بعيدون في الأردن في أحد المخيمات الخاصة باللاجئين، لكن هذا الوجود يمنع العودة مثل حاجز شفاف يفصل بين الحياة القديمة للأبطال وشتاتهم الحديث.
أما أحداث "ملح هذا البحر" فتبدأ بالبطلة ثريا في مطار تل أبيب، وهي مضطرة لتحمّل التفتيش المهين من ضابطة إسرائيلية تدفعها إلى الهرب من بلادها، تسألها: لماذا أتيت؟ في تجاهل تام أن تلك هي بلاد أجدادها.
نرى هذا الوجود بوضوح في زيارة الأبطال ليافا، فهم يضطرون حتى لارتداء قبعات اليهود للذوبان بينهم، فيصبح ما يحميهم تخليهم عن هويتهم الفلسطينية.
في الآونة الأخيرة كثرت الأفلام الفلسطينية التي تقدم صورة الحياة اليومية لسكان فلسطين، تلك الصورة التي قد لا يتخيلها المشاهد العربي بسهولة.
عبر هذه الأعمال نعرف أنه ما زال هناك حب وعلاقات أسرية تشوبها الاضطرابات، ودعوات زفاف تُقدم باليد التزاما بالأصول القديمة، وما زالت هناك سينما تخبرنا عن كل ذلك مثل أفلام آن ماري جاسر.