نسخة نسائية من طرزان في فيلم "حيث يغني جراد الماء"

نسخة نسائية من طرزان في فيلم حيث يغني جراد الماء
الوقائع الاخبارية : لا يرغب بعض المبدعين في تغيير ملامح الواقع الاجتماعي في العالم فقط، ولكنهم في كثير من الأحيان يطمحون إلى تغيير التاريخ بإعادة تشكيل القصص التاريخية طبقا لما يريدون أن يكون عليه المستقبل.

ولعل فيلم "حيث يغني جراد الماء" (Where the Crawdads Sing) الذي يعرض في الولايات المتحدة والعالم منذ منتصف يوليو/تموز الماضي والمأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتبة وعالمة الحياة البرية الأميركية ديليا أوينز هو النموذج الأحدث في سلسلة التغييرات التي تمارسها مؤسسات الإبداع في العالم.

الفيلم نسائي بامتياز، فمؤلفة الرواية الأميركية ديليا أوينز والمخرجة هي أوليفيا نيومان التي قدمت فيلمها الروائي الأول عام 2018 تحت اسم "المباراة الأولى" (First game) ودارت أحداثه حول فتاة تقرر ممارسة رياضة المصارعة وسط فريق من الرجال، أما كاتبة السيناريو فهي لوسي أليبار التي تهوى قصص الطفولة المقاومة للأزمات حتى إنها قدمت في فيلمها السابق "وحوش البرية الجنوبية" (Beasts of the Southern Wild) عام 2012 قصة طفلة تبلغ من العمر 6 أعوام تواجه غضب الطبيعة وذوبان جبال الجليد وتدهور صحة والدها وحدها عبر قيادة مجموعة من الثيران.

الحدث الرئيس في فيلم "حيث يغني جراد الماء" هو قتل "رجل" وبراءة "المرأة" التي قتلته، أما إيرادات الفيلم فتجاوزت حتى الأسبوع الجاري 120 مليون دولار في دور العرض في أميركا والعالم.

مغالطات وأخطاء
وإذا كانت "ديزني لاند" قد حوّلت كثيرا من أبطالها إلى نماذج مختلفة مع الاحتفاظ بملامحهم الشكلية، ودفعت ببطلة سمراء إلى بعض أفلامها بغرض إثبات فكرة التنوع و تجاوز العنصرية التي سادت في المجتمعات الغربية، فإن جديد السينما هو تحويل شخصية طرزان ابن الغابة إلى فتاة بفيلم مختلف ودراما مختلفة، ويبدو الأمر كما لو كان محاولة لخلق تاريخ نسوي مواز لتاريخ الرجل.

ولا يملك المشاهد لفيلم مثل "حيث يغني جراد الماء" سوى أن يبتسم أو حتى يضحك على الأخطاء المنطقية والدرامية فيه، لكنه سيحب بالتأكيد تلك اللمسة الرومانسية المتوحشة التي اتسمت بها الطبيعة البكر وسط المستنقع الفارغ إلا من طفلة تكبر أمام عينيك في عزلتها عن البشر.

ولعل أبرز المفارقات هو سلوك الفتاة التي لم تتلق تنشئة حقيقية من أي شخص، ولم تتعلم سوى من الطيور والحيوانات البرية والمائية، ولكنها بدت أكثر تحضرا من كل شخصيات العمل.

وتدور القصة حول طفلة ابتليت بأب سكّير عنيف أجبر والدتها وإخوتها على الهرب أما هي فبقيت في المنزل وحدها معه، لكنها امتلكت من المكر ما جعلها تنجو من اعتدائه وعنفه إلى أن ذهب ولم يعد.

ومنذ كان عمرها 10 أعوام، قامت الطفلة بتربية نفسها وتعلمت كيفية مواجهة الظروف المحيطة في منطقة مستنقعات مهجورة، وقد رفضها البشر باعتبارها فتاة المستنقع الحافية، فصادقت الطيور والكائنات البحرية والأصداف والقشريات، ولم تؤنس تلك الكائنات وحشتها فقط، بل علّمتها وتحولت إلى جزء من تكوينها النفسي، لقد صارت "فتاة المستنقع" كائنا بريا تماما.

أنثى الطرزان
يستنسخ الفيلم قصة طرزان الذي نشأ في الغابات الأفريقية بعد أن توفي والداه ورعته القردة ومن ثم اكتشفه العالم، لكن بطل الفيلم الجديد فتاة انصرفت عنها الأسرة ونمت كما تنمو الأعشاب والطحالب على جوانب الجسور.

استقرت قصة شخصية طرزان في المخيلة الغربية منذ عام 1912 حين صدرت رواية "طرزان القردة" للمؤلف الأميركي إدغار رايس بوروس، وانطلقت شخصية طرزان كالصاروخ لتحقق وجودا مذهلا في الأفلام وكتب الأطفال والبرامج التلفزيونية وألعاب الأطفال و الأحذية الرياضية.

الجراد لا يغني
" جراد الماء" حيوان قشري يسمى "Crayfish"، يعيش في المستنقعات والجداول وحقول الأرز، وهو الصديق الأقرب للفتاة التي تعيش في منطقة المستنقع، لا يغني ولا يصدر أي صوت، لكن صنّاع العمل أقاموا تلك العلاقة الصامتة بين حيوان المستنقع وفتاته للتأكيد أن تلك اللغة الخاصة بينهما تحمل في طياتها قاسما مشتركا يمكن أن يعكس توحشا نسبيا في سلوك الإنسان أو إنسانية في سلوك الحيوان.

ويبرر الفيلم لجوء الفتاة إلى القتل بحماية نفسها، وفي الفيلم نجد البطلة كيا كلارك الطفلة (جوجو ريجينا) تقدم أداء مذهلا بذلك الوجه الطفولي البريء والمتحدي في آن معا، وألقى الأداء الحركي في مياه المستنقع الضوء على الجهد الجبار الذي بذلته المخرجة لتدريبها، أما مرحلة المراهقة والشباب فقدمتها الممثلة ديزي إدغار جونز التي تتمتع بتلقائية مدهشة وقدرة على تصوير معاناتها الداخلية ببساطة وهدوء.

ويبدو ذلك الطابع الهادئ للعمل سمة نسائية خاصة، فحتى في أعنف لحظات الفيلم حين قتل شاب في الغابة لم تشأ المخرجة تصوير القتل وأظهرت الجثة فقط.

"كيا" الفتاة الشابة تقع في غرام "تيت" (الممثل تايلور جون سميث) الذي يعلمها القراءة والكتابة وهو ما يثري موهبتها المذهلة في الرسم، لكنه يهجرها إلى مستقبله لتعدّ ما حدث منه خيانة لم تتحرر من آثارها إلا حين التقت مخادعا كبيرا هو تشيس أندرسون (الممثل هاريس ديكنسون) الذي نجح في استغلالها مدة، ولما عرفت نيته هجرته لكنه ظل يلح عليها واعتدى عليها بطريقة مهينة، ثم يعود الحبيب القديم ليقف بجوار "كيا" ضد تهمة القتل ومعه شقيقها الذي ظهر بعد أن نشر كتابها الأول عن الحياة البرية.

نسخة أصلية ثانية
يحمل السرد الفيلمي سمات شعرية واضحة، وتظهر عبر تلك النقلات الناعمة بين مشاهد الغابات الخضراء وسطح المياه، كما تشي تلك الحالة التي صنعتها المخرجة بحب شديد للمكان وإخلاص أشد للنص الروائي الذي بيع منه أكثر من 12 مليون نسخة فور طرحه في الولايات المتحدة الأميركية عام 2018.

والرواية ليست عملا أدبيا ممتعا فقط، بل هي كتاب تثقيفي بالدرجة الأولى لأن الكاتبة تستعرض الحياة في المستنقعات بكل تفاصيلها، من طبيعة المناخ إلى أنواع الحشرات والطيور والأسماك والأعشاب البحرية.

وكاتبة الرواية ليست إلا واحدة من علماء الحياة البرية في أفريقيا واستخدمت معارفها لنقل التفاصيل الروائية بأسلوب أقرب إلى النسخ التفصيلي للطبيعة، ولم يؤثر ذلك السرد المطول للحياة البرية في السياق الروائي والحبكة والاستمتاع بالعمل الذي يعدّ الرواية الأولى للكاتبة.

تابعوا الوقائع على