تتبع تدفق النهر من المنبع إلى المصب: نهر اليرموك ومزاعم الكوليرا
الوقائع الإخبارية : منذ عام 1982، أُعلنت الأردن خالية تماما من الكوليرا وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) حيث لم تُسجل أي حالة إصابة بالكوليرا في البلاد منذ ذلك الحين، مما يعكس نجاح النظام الصحي الأردني في مراقبة ومنع انتشار المرض. وعززت هذه الجهود من خلال تطوير بروتوكول الكوليرا الذي أطلقته الحكومة الأردنية في عام 2015، والذي يتضمن مراقبة صارمة لجودة المياه، والتفتيش الدوري على حالات الإسهال في المراكز الصحية، حيث يتم فحص 20 ٪ من هذه الحالات للتأكد من خلوها من الكوليرا. هذا الالتزام المستمر بالرقابة والوقاية ساهم في الحفاظ على الأردن خال من هذا المرض لأكثر من أربعة عقود.
الكوليرا مرض حاد يسبب إسهالاً شديدًا نتيجة الإصابة ببكتيريا Vibrio cholerae. يتميز المرض بظهور مفاجئ للإسهال المائي الحاد، القيء، وتشنجات الساقين. في الحالات الشديدة، يؤدي الفقدان السريع للسوائل إلى الجفاف، مما قد يكون مميتًا إذا لم يتم علاجه بسرعة. تنتقل الكوليرا بشكل رئيسي من خلال تناول المياه أو الطعام الملوثين، خاصة في المناطق التي تعاني من نقص في معالجة المياه، ضعف في البنية التحتية للصرف الصحي، وغياب ممارسات النظافة المناسبة.
في الاسابيع الأخيرة، ادعت الحكومة الاسرائيلية أن نهر اليرموك، الذي يجري على الحدود بين سورية والأردن والاراضي المحتلة، ملوث بالكوليرا مما أدى إلى وقف استيراد الخضراوات من الأردن. لفهم مدى صحة هذا الادعاء، من الضروري تتبع مسار النهر من منبعه في سورية، مرورًا بالأردن والاراضي المحتلة، وصولًا إلى قناة الملك عبدالله، مع دراسة نقاط التلوث المحتملة على طول الطريق.
المنبع في سورية
ينبع نهر اليرموك في سورية، حيث تم تسجيل تفشي حديث للكوليرا، ومع ذلك، تركز هذا التفشي في الأجزاء الشمالية من سورية مثل ادلب وحلب والحسكة شرقاً، إلا أن هذه المناطق تقع على بعد أكثر من 400 كيلومتر من نهر اليرموك. على الرغم من العدد الكبير من الحالات المسجلة - أكثر من 300,000 حالة - فإن المسافة والفصل الهيدرولوجي والطبوغرافي يجعلان من غير المحتمل أن تكون بكتيريا الكوليرا قد وصلت إلى النهر من هذه المواقع.
واحدة من أقرب القرى السورية إلى نهر اليرموك هي قرية الشجرة، التي تقع على بعد حوالي 25 كيلومترًا من نقاط التلوث المزعومة. بنيت هذه القرية مثل جاراتها في مناطق سهلية بعيدة عن مجاري الاودية المتجهة لليرموك كما بنيت على تربة طينية سميكة، وهي معروفة بعدم نفاذيتها للمياه مما يقلل بشكل كبير من خطر تسرب بكتيريا الكوليرا إلى النهر. وهذا يجعل من غير المحتمل أن تلوث الكوليرا من هذه المنطقة قد وصل المجرى المائي.
مرورًا بالأردن
عند دخول نهر اليرموك إلى الأردن، يمر عبر سد الوحدة على الحدود بين الأردن وسورية. يقوم السد بحجز المياه وتخزينها مما يساهم في تهدئة تدفق المياه وتقليل سرعة انتقال أي ملوثات ميكروبية محتملة. إضافةً إلى ذلك، يساعد الغطاء النباتي الكثيف على طول مجرى النهر بعد السد في تقليل التلوث الميكروبي، حيث تميل البكتيريا، بما في ذلك بكتيريا الكوليرا، إلى الالتصاق بأجزاء النباتات القريبة من المياه، مما يعزز من عملية التنقية الطبيعية.
بينما يستمر نهر اليرموك في الجريان، يمر بقرية الحمة الاردنية، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 3000 شخص. يعتمد سكانها على الحفر الامتصاصية لإدارة المياه العادمة المنزلية، وهي طريقة قد لا تكون مثالية ولكنها لم تؤد إلى تسجيل أي حالات كوليرا في القرية. كما أن هذه المنطقة تتميز بمياه حارة كبريتية وحامضية مما يقتل البكتيريا بشكل فعال.
مرورا بفلسطين المحتلة
ثم يتدفق النهر على امتداد الحدود مع الاراضي المحتلة حيث تقع أقرب قرية وهي حمات غدير، وهي قرية تضم منطقة سياحية كبيرة ومزرعة تماسيح ملاصقة للنهر ويستبعد أن تكون هذه المزرعة مصدراً للتلوث بالكوليرا الا أن مياه هذه المزرعة في حال طرحها في النهر ولاحتوائها على مواد عضوية، ستساعد في ايجاد بيئة مناسبة لبقاء الميكروبات فترة أطول.
التحليل الفني: مصادر الكوليرا في مياه النهر
يمكن للكوليرا أن تدخل النظام المائي عبر عدة طرق، بما في ذلك تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة، تلوث الجريان الزراعي، أو إدخال مباشر من الأشخاص المصابين. في حالة نهر اليرموك، تبدو مصادر التلوث المحتملة قليلة.
تعمل التربة الطينية في القرى السورية الواقعة على طول النهر في المناطق العليا كحاجز طبيعي، مما يمنع البكتيريا من دخول المياه. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب تسجيل حالات الكوليرا في قرية الحمة الأردنية، على الرغم من اعتمادها على الخزانات الامتصاصية، يشير إلى أن النهر لم يتلوث في هذه النقطة.
كما يغطي الجزء السفلي من نهر اليرموك غطاء نباتي كثيف يعمل كعامل طبيعي لتنقية المياه. تميل البكتيريا الممرضة، بما في ذلك بكتيريا الكوليرا، إلى الالتصاق بأجزاء النباتات القريبة من المياه، مما يقلل من وجودها في المياه المتدفقة. هذا الغطاء النباتي يساهم بشكل فعال في تقليل التلوث الميكروبي إن وجد ويعزز من جودة المياه في النهر.
على الرغم من مخاوف الاحتلال من تلوث الكوليرا، فإن الاختبار الميكروبي الذي أدى إلى وقف استيراد الخضروات من الأردن قد لا يوفر صورة كاملة. هذه الاختبارات حساسة للغاية، ومن المهم إدراك أن عينة واحدة من موقع واحد لا ينبغي أن تُستخدم لإصدار أحكام واسعة حول جودة المياه عبر النهر بأكمله.
في الخلاصة تشير الأدلة إلى أن خطر تلوث نهر اليرموك بالكوليرا منخفض جدًا حيث إن البيانات المتوفرة والنظام الهيدرولوجي للحوض لا تدعم فكرة تلوث واسع النطاق بالنهر. فالرحلة التي يقطعها النهر من سورية إلى مصبه في وادي الأردن تمر بمناطق حافظت على خلوها من الكوليرا لعقود، إلى جانب الإجراءات الصحية العامة الصارمة في الأردن، مما يدفعنا للتأكيد أن ادعاء التلوث قد يكون مبالغًا فيه أكثر من كونه واقعًا.
هذا الحادث يدفعنا لإعادة التفكير في نهج مراقبة نوعية المياه في حوض نهر اليرموك من أجل الوصول إلى قرارات مستندة إلى الأدلة. ينبغي أن يشمل ذلك وجود نظام إقليمي شامل لمراقبة جودة المياه على مستوى الحوض بأكمله، مدعومًا بنظام إنذار مبكر فعال وأدوات إدارة اقليمية. مثل هذا النظام يمكن أن يساعد في الكشف المبكر عن أي تلوث محتمل، ويتيح اتخاذ قرارات مدروسة ومبنية على بيانات دقيقة، مما يضمن سلامة الموارد المائية وصحة المجتمعات المحلية التي تعتمد على هذه المياه.