خفايا المعركة .. التفكيك من الداخل

خفايا المعركة .. التفكيك من الداخل
محمد أبو رمان
يشير تحقيقٌ استقصائيٌّ موسّع ومهم نُشر أمس على موقع البي بي سي إلى الحرب الإعلامية الافتراضية الكبيرة التي تجري اليوم في سورية، التي تضمنت دعايات كاذبة وادعاءات وروايات مفبركة، وعملًا إعلاميًّا ودعائيًّا ضخمًا جدًّا شمل ملايين المنشورات المضللة، التي تبادلتها الأطراف الداخلية والخارجية المؤيدة والمعادية لحكومة أحمد الشرع، إلاّ أنّ الغالبية العظمى من هذه المنشورات كانت موجّهة ضد الحكومة، ولإثارة الفتن الداخلية وتأليب الأقليات والعالم على الحكومة السورية.

التحقيق قام بتحليل عيّنة تتكوّن من 400 ألف منشور، ووجد منها عيّنة تبلغ 50 ألف منشور تحتوي على ادّعاءات كاذبة أو غير موثوقة ضد الإدارة السورية الجديدة، وتبيَّن أنّ 60 في المئة من هذه المنشورات صادرة عن حسابات حدّدت أدوات التحليل موقعها الجغرافي خارج سوريا، خاصةً في العراق واليمن ولبنان وإيران.

ويشير التحقيق، وهنا بيت القصيد، إلى أنّ كثيرًا من الحسابات مفبرك أو زائف، لأسماء وهمية، ويتم تداول منشورات تدفع نحو الصراع الأهلي، وتتداول مواد مفبركة وغير صحيحة ومبالغًا فيها، مثلما حدث مع أحداث الساحل، أو حتى مع الدروز في الجنوب السوري، وبعضها موجّه ضد الدروز كذلك، ويتضمّن مواد ملفّقة أيضًا، ويقول معدّو التقرير إنّ هنالك «عدة مؤشرات على التلاعب المُنسّق.. بعضها ينشر محتوىً متزامنًا، أو يشارك المنشورات نفسها في التوقيت ذاته، فيما يبدو أنه استخدام لبرامج روبوتية أو حملات منظّمة..».

بالنتيجة، هنالك حروب كبيرة اليوم، ليس فقط في سورية، بل في المنطقة بصورة عامة، تحاول السيطرة على الوعي وقيادة الرأي العام في اتجاهات معيّنة، ومن الواضح أنّ هنالك سمات رئيسية لهذه الحروب؛ في مقدّمتها إثارة الأزمات الداخلية وتوسيع شروخ الثقة بين المواطنين، والتلاعب بالهويات الفرعية والطائفية والاجتماعية والعرقية والدينية، واستخدامها لأهداف سياسية تؤدي في النهاية لخدمة أطراف خارجية (أغلب الحسابات التي هاجمت حكومة الشرع، على سبيل المثال؛ لم تكن من سورية، بل من إيران والعراق ولبنان واليمن).

أردنيًّا، يُنبّهنا تحقيق البي بي سي إلى ضرورة اليقظة السياسية والمجتمعية والثقافية، ولم يعد خافيًا أنّ هنالك حملات منظّمة ومنهجيّة لها أجندات مع أطراف خارجية أو داخلية، تحاول التلاعب بالمشهد الداخلي، وتستثمر العديد من الأحداث الداخلية وتأخذها بمسارات خطيرة، وتوظّف خطابًا غرائزيًّا ولغة هوياتية مأزومة، أو حتى شيطنة للدولة أو أطراف اجتماعية أو قوى سياسية، وكثير من هذه الحسابات يأتي من الخارج، وأكاد أجزم أنّ نسبة كبيرة منها موجّهة ومرتبطة بأجندات معيّنة.

من كان يتابع بعض هذه المنصّات، بخاصة منصّة X، يظن أنّنا في حالة من الحرب الأهلية الداخلية، وأنّ هنالك أزمة كبيرة في الداخل الأردني، لكن الحقيقة أنّ الواقع الاجتماعي بعيد تمامًا عن هذه الصورة، والعلاقات بين الناس لا علاقة لها بهذه الحروب والجدالات الافتراضية، وذلك لا ينفي أنّ هذه الحسابات الوهمية والأجندات السياسية والحملات المنظّمة والدعايات الاحترافية تؤدّي إلى تسميم الأجواء الداخلية ونشر روح سلبية بين الناس، وتقود خلفها كثيرًا من غير الواعين لهذا النوع من المعارك والأجندات.

مثل هذه الحملات الإعلامية لن نتمكن من مواجهتها أو وقفها من خلال قانون الجرائم الإلكترونية، الذي يُجرّم خطاب الكراهية وإثارة القلاقل والفتن، فكمٌّ كبير منها خارجيٌّ وموجَّهٌ ومفبرك، وقد أصبحت هذه الحملات وسياسات السوشال ميديا جزءًا رئيسيًّا، بل أحد أهم أدوات ووسائل الحروب النفسية والمعنوية والصراعات الإقليمية، في وقت تموج فيه المنطقة بالصراعات والأجندات المتضاربة. أصبح الإعلام سلاحًا فتّاكًا، ومع تعاظم دور مواقع التواصل الاجتماعي والذكاء الصناعي وقواعد البيانات الكبرى، بتنا أمام عصر جديد، يُعيد تعريف مفهوم السياسة نفسه، مما يدفع إلى تطوير ما يدفع إلى بناء مقاربات وطنية إعلامية على مستوى عالٍ من التخطيط والتفكير والبناء، للتعامل مع هذه المرحلة الجديدة، وبناء منظومة وطنية قادرة على بناء جدار حماية أولًا، وإعادة تقديم الرواية والسردية الوطنية الداخلية ثانيًا، وعدم الاكتفاء بمنطق الفزعات وردود الفعل، وبناء تصوّرات لترويج الرواية الأردنية داخليًّا وخارجيًّا، والإفادة من الخبراء الأردنيين المعروفين دوليًّا في هذا المجال، لكنّهم غير مستثمرين – كالعادة للأسف – داخليًّا!


تابعوا الوقائع على
 
جميع الحقوق محفوظة للوقائع الإخبارية © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الوقائع الإخبارية )
تصميم و تطوير