الذكاء الاصطناعي: الحارس الأمين في مواجهة الكوابيس السيبرانية
أ.د احمد منصور الخصاونة
الوقائع : في عصر تحوّلت فيه تفاصيل الحياة إلى بيانات تُختزن في شبكات مترابطة، وأصبحت البنية الرقمية بمثابة العصب الحيوي للدول والمؤسسات والأفراد، برزت التهديدات السيبرانية كأحد أخطر التحديات التي تواجه العالم. فهي لم تعد هجمات تقليدية عشوائية كما في السابق، بل باتت أكثر تعقيدًا ودهاءً، قادرة على التسلل خلسة إلى عمق الأنظمة وإحداث أضرار جسيمة على المستويات كافة. وفي مواجهة هذا الخطر المتنامي، لم يعد مقبولًا الركون إلى الأساليب الدفاعية التقليدية التي تتحرك بعد وقوع الهجوم، بل بات من الضروري الانتقال إلى نهج استباقي يقوم على حلول ذكية قادرة على التفوق على المهاجمين.
في هذا الإطار، يبرز الذكاء الاصطناعي كحليف استراتيجي محوري، وخط دفاع متقدم في هذه الحرب الخفية. إذ يتيح بقدراته الفائقة على تحليل كميات هائلة من البيانات في زمن قياسي، ورصد الأنماط غير المألوفة، الانتقال من منطق رد الفعل إلى منطق التنبؤ بالهجمات قبل وقوعها، والتصدي لها بكفاءة غير مسبوقة. لقد كانت أنظمة الحماية التقليدية تعتمد على تحديثات دورية وجدران نارية وقوائم سوداء، غير أن المهاجمين تطوروا بدورهم، مستعينين بأدوات الذكاء الاصطناعي لإنتاج برمجيات خبيثة متقدمة. وهنا نجح الذكاء الاصطناعي في قلب موازين المواجهة، بفضل مرونته وقدرته على التعلم الذاتي، مما مكّنه من التصدي لما يُعرف بـ «الهجمات الصفرية» التي تظهر للمرة الأولى دون سابق إنذار.
يمكن توصيف الذكاء الاصطناعي في هذا السياق بوصفه عينًا ساهرة لا تنام، قادرة على مراقبة الأنظمة على مدار الساعة، وتسجيل السلوك الطبيعي للشبكات والأجهزة بدقة متناهية، ثم اكتشاف أي انحراف عن هذا السلوك فور وقوعه. فمجرد محاولة دخول غير مألوفة إلى خادم حساس، أو إرسال بيانات مشبوهة من جهاز منزلي في وقت غير معتاد، كفيلة بإطلاق إنذار فوري، مصحوب بخيارات عملية للتعامل مع الخطر، مثل عزل الجهاز أو حظر الاتصال أو اتخاذ تدابير وقائية عاجلة.
وما يمنح الذكاء الاصطناعي تفوقه هو قدرته على التكيف المستمر مع المتغيرات. فعندما تغيرت أنماط العمل عالميًا مع الانتقال الواسع إلى العمل عن بُعد، تكيفت خوارزمياته بسرعة مع هذه البيئة الجديدة، متفاديًا الإنذارات الكاذبة، ومعززًا فعاليته مع مرور الوقت. وهو لا يكتفي بالمراقبة، بل يملك إمكانيات تحليل الشيفرات الخبيثة، ورصد الثغرات الأمنية قبل استغلالها، والتصدي لحملات التصيد الاحتيالي من خلال فحص الرسائل والمرفقات والروابط بدقة فائقة، تنبّه المستخدمين وتحميهم قبل وقوع الضرر.
وفي الأردن، تدرك الدولة تمامًا أن التحديات السيبرانية لم تعد شأنًا تقنيًا فحسب، بل قضية تمس الأمن الوطني والاقتصاد الرقمي ومسار التحول الرقمي الشامل. لذلك، جعلت المملكة من الأمن السيبراني جزءًا أصيلًا من منظومة أمنها الوطني. وقد اتخذت خطوات عملية لبناء قدرات بشرية مؤهلة، عبر الاستثمار في تعليم وتدريب الشباب الأردني على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، بما يعزز جاهزيتهم لقيادة هذا القطاع الحيوي. وفي موازاة ذلك، يجري تشجيع بيئة ريادية حاضنة للابتكار، تدعم الشركات الناشئة والمؤسسات المحلية في تطوير حلول سيبرانية ذكية، بما يرسخ مكانة الأردن كمركز إقليمي متقدم في هذا المجال.
ولم تقتصر الجهود على الداخل، بل امتدت إلى توسيع جسور التعاون الدولي مع مؤسسات ومراكز بحث رائدة عالميًا، بهدف تبادل الخبرات والمعارف، والاستفادة من أفضل الممارسات العالمية. وقد انعكس ذلك في توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع هيئات متخصصة، ما عزز البنية الدفاعية الرقمية للمملكة. وعلى المستوى الاستراتيجي، أولت الدولة أهمية قصوى لحماية البنية التحتية الوطنية الحرجة في قطاعات الطاقة والمياه والاتصالات والنقل، باعتبارها أهدافًا رئيسية للهجمات الإلكترونية، من خلال نشر حلول سيبرانية متقدمة قائمة على الذكاء الاصطناعي، وبناء خطط وطنية لتعزيز مرونتها واستعدادها لمواجهة أي طارئ.
كما شملت الرؤية الأردنية البعد التوعوي والمجتمعي، عبر إطلاق حملات وطنية لتعزيز إدراك الأفراد والمؤسسات بمخاطر الفضاء السيبراني وأهمية الإجراءات الوقائية البسيطة، لما لها من أثر كبير في سد الثغرات وتقليل احتمالات الاختراق. وبذلك، تتجسد استراتيجية شاملة للأمن السيبراني، تقوم على أبعاد دفاعية وتقنية، وتنموية وتوعوية، تعكس إيمان الدولة بأن معركة الفضاء السيبراني لا تقل شأنًا عن أي معركة ميدانية، وأن النصر فيها شرط لازم لتحقيق الاستقرار والنهضة الاقتصادية.
لقد غدا الأمن السيبراني اليوم ضرورة وجودية، لا ترفًا ولا خيارًا مؤجلًا، وغدا الذكاء الاصطناعي حجر الزاوية لكل استراتيجية دفاعية ناجحة. إنه الحارس الأمين الذي يتعلم من كل مواجهة، ويتهيأ لكل تحدٍّ مقبل. ورغم أن الهجمات السيبرانية قد لا تتوقف تمامًا، إلا أن القدرة على توقعها واحتوائها باتت ممكنة بفضل هذا الحليف الذكي. وهكذا، يتأكد أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة للابتكار والنمو، بل درع منيع يحرس الحاضر ويصون مستقبل الأردن الرقمي، ويضمن له مكانة راسخة في معادلة الأمن والابتكار العالمي.


















