منتدون: حل الدولتين بصيغته الحالية مشروع غير قابل للتنفيذ
الوقائع الإخباري :أجرت جمعية الشؤون الدولية في يوم الثلاثاء الموافق 23-12-2025 حوارًا سياسيًا معمقًا دار حول موضوع حل الدولتين، التحديات والفرص، بحضور أعضاء الجمعية والضيوف الكرام من شخصيات سياسية وأكاديمية وخبراء في الشأن الإقليمي والدولي، وذلك في ظل لحظة تاريخية فارقة تشهد فيها القضية الفلسطينية أخطر مراحلها منذ النكبة، وسط تحولات إقليمية ودولية متسارعة، وتغيرات جذرية على الأرض تهدد بإفراغ أي حديث عن التسوية السياسية من مضمونه العملي.
جاء هذا الحوار في سياق يتسم بتآكل المرجعيات التقليدية للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وبروز واقع ميداني جديد قائم على الضم الزاحف، والتوسع الاستيطاني، وتكريس أنماط السيطرة الإسرائيلية طويلة الأمد، مقابل ضعف عربي وانقسام فلسطيني، وعجز دولي عن فرض أي آليات إلزامية لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية. وقد سعى المشاركون في هذا اللقاء إلى إعادة تفكيك مفهوم حل الدولتين، ليس بوصفه شعارًا سياسيًا مكررًا، بل كمسار تاريخي وقانوني تعرض لتلاعب ممنهج منذ نشأته وحتى اليوم.
استُهل النقاش بالتأكيد على أن فكرة حل الدولتين لم تكن في أصلها تعبيرًا عن عدالة تاريخية، بل جاءت كحل توافقي فرضته موازين القوى الدولية منذ قرار التقسيم رقم 181 عام 1947، الذي منح الحركة الصهيونية شرعية دولية على حساب الشعب الفلسطيني، وأسس لاختلال بنيوي ما زالت آثاره قائمة. وقد بيّن المتحدثون أن هذا المسار لم يكن سوى امتداد لمشروع استعماري غربي بدأ تمهيده منذ منتصف القرن التاسع عشر، مستفيدًا من تراجع الدولة العثمانية، والدعم الإمبريالي الأوروبي، ثم البريطاني، وصولًا إلى الرعاية الأميركية شبه المطلقة لاحقًا.
وتوقّف الحوار مطولًا عند التحولات المفصلية في مسار الصراع، من وعد بلفور، إلى الانتداب البريطاني، ثم قيام دولة إسرائيل دون ترسيم حدود نهائية، واحتلال عام 1967 الذي نقل المشروع الصهيوني من إطار الدولة إلى مشروع توسعي استيطاني مفتوح. وأجمع الحاضرون على أن قرارات مجلس الأمن، وعلى رأسها القرار 242، ظلت حبرًا على ورق في ظل غياب آليات التنفيذ، وانحياز القوى الكبرى، خصوصًا الولايات المتحدة، التي انتقلت منذ السبعينيات إلى موقع الداعم الاستراتيجي الأول لإسرائيل سياسيًا وعسكريًا وأيديولوجيًا.
وفي سياق تقييم مرحلة ما بعد أوسلو، اعتبر عدد من المتداخلين أن الاتفاقيات المرحلية أسهمت عمليًا في إدارة الصراع بدل حله، وكرّست واقع الحكم الذاتي المنقوص، وأنتجت سلطة فلسطينية محدودة الصلاحيات، في مقابل تسارع الاستيطان، وتقطيع الجغرافيا الفلسطينية إلى كانتونات معزولة. وقد جرى التأكيد على أن تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق A وB وC شكّل الإطار العملي لإنهاء إمكانية قيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة، لا سيما مع سيطرة إسرائيل على أكثر من 60% من أراضي الضفة، وتحكمها الكامل بالموارد والحدود والمعابر.
كما شكّل الهجوم الذي نفذته حركة حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 محطة مركزية في النقاش، إذ رأى المشاركون أنه كشف هشاشة السردية الإسرائيلية حول التفوق الأمني المطلق، لكنه في الوقت ذاته أعاد إنتاج اصطفاف غربي كثيف للدفاع عن إسرائيل، ووفّر لها غطاءً غير مسبوق لشن حرب مدمرة على قطاع غزة، أعادت طرح سيناريوهات التهجير القسري والناعم، وتحويل القطاع إلى كيان منزوع السيادة، أو منطقة إدارة دولية أو أميركية، دون أي أفق سياسي واضح.
وفي هذا الإطار، جرى التطرق إلى ما بين عامي 2024 و2025 من طروحات إسرائيلية–أميركية تتحدث عن ضم كامل للضفة الغربية، وإنهاء فكرة الاحتلال المؤقت، مقابل مشاريع اقتصادية كبرى، وممرات تجارية، وخطط "إعادة إعمار” مشروطة، تهدف عمليًا إلى تصفية البعد السياسي للقضية الفلسطينية، وتحويلها إلى مسألة إنسانية أو اقتصادية. وقد حذّر المتحدثون من أن هذه المقاربات تمثل انتقالًا خطيرًا من منطق التسوية إلى منطق الإدارة القسرية الدائمة للسكان الفلسطينيين بلا حقوق سيادية.
وعلى مستوى التحديات، أجمع المشاركون على أن حل الدولتين يواجه اليوم عوائق بنيوية عميقة، أبرزها الواقع الاستيطاني المتشعب، وتهويد القدس، وملف اللاجئين وحق العودة، والانقسام الفلسطيني الداخلي، وانعدام الثقة المتبادلة، واختلال موازين القوى، وتراجع الزخم الدولي في ظل انشغال العالم بأزمات أخرى. كما أُشير إلى أن الرأي العام الإسرائيلي بات في غالبيته رافضًا لإقامة دولة فلسطينية، ما يجعل أي تسوية مستقبلية تتطلب كلفة سياسية داخلية كبيرة لم تعد النخب الإسرائيلية مستعدة لدفعها.
في المقابل، لم يغفل الحوار الإشارة إلى الفرص المتاحة، رغم محدوديتها، وفي مقدمتها استمرار الإجماع الدولي القانوني على حل الدولتين كمرجعية، وازدياد التأييد الشعبي العالمي للقضية الفلسطينية، خاصة في أوساط الشباب في الولايات المتحدة وأوروبا، بفعل وسائل التواصل الاجتماعي وكشف حجم الانتهاكات. كما طُرحت فكرة ربط التطبيع الإقليمي والاندماج الاقتصادي بتحقيق تسوية عادلة، باعتبارها ورقة ضغط محتملة إذا ما توفرت إرادة سياسية عربية موحدة.
غير أن النقاش اتسم بقدر عالٍ من الواقعية، إذ شدد العديد من المتحدثين على أن الرهان على المجتمع الدولي وحده بات وهمًا، وأن الاعترافات المتزايدة بالدولة الفلسطينية، رغم أهميتها الرمزية، تفتقر إلى قوة التنفيذ، في ظل نظام دولي تحكمه موازين القوة لا مبادئ القانون. كما جرى التأكيد على أن استمرار الانقسام العربي والفلسطيني يضعف أي إمكانية لتحويل الفرص النظرية إلى مسار عملي.
وانتهى الحوار إلى خلاصة مفادها أن حل الدولتين، بصيغته الحالية، لم يعد مشروعًا قابلًا للتنفيذ دون تغيير جذري في موازين القوى وآليات الإلزام الدولي، وأنه بات أقرب إلى مرجعية أخلاقية وقانونية تحفظ الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، أكثر منه حلًا وشيكًا. ومع ذلك، شدد المشاركون على أن سقوط هذا الحل دون بديل عادل سيقود المنطقة إلى صراع مفتوح طويل الأمد، تتجاوز تداعياته فلسطين لتطال الأمن الإقليمي برمته.
وفي ضوء ذلك، أكد الحضور أن الدفاع عن حل الدولتين لم يعد مسألة تضامن مع الشعب الفلسطيني فحسب، بل بات ضرورة استراتيجية لحماية استقرار المنطقة ومنع تكريس منطق القوة والهيمنة. كما دعوا إلى إعادة التفكير عربيًا وفلسطينيًا في أدوات المواجهة السياسية والقانونية والإعلامية، وبناء مشروع واقعي موحد، يستند إلى الصمود على الأرض، واستثمار التحولات في الرأي العام العالمي، دون الوقوع في أوهام التسويات الشكلية أو العمليات السياسية المفتوحة بلا نهاية.


















