بالضّادِ بدَأْنا وبِها نكونُ

بالضّادِ بدَأْنا وبِها نكونُ
نوّاف العجارمة
منْ زمنِ أبينا إسماعيلَ عليهِ السّلامُ إلى يومِكِ الأغرِّ هذا، وحرفُكِ يَصدحُ بعذبِ الكلامِ، ويُعلنُ أنَّ الإنسانَ ما هوَ إلّا كلمتُهُ وحرفُهُ وبوحُهُ، ينشرهُ طيّبَ العَرْفِ والشّذا، ويحملُهُ التزامًا وقيمةً ومبدأً، ولَئنْ تبادلَتِ الأممُ إنجازاتِها، فقدْ كانَ لكِ يا ضادَنا العريقةَ السّبقُ في نشرِ حضارةٍ عمادُها الذّوقُ اللّغويُّ، وحسنُ العبارةِ، وجمالُ الحديثِ، ورصانةُ التّعبيرِ. وأيُّ حضارةٍ تعلو على حضارةٍ تؤمنُ بجمالِ الكلمةِ، وبتأثيرِ الجملةِ، وبثورةِ النّصِّ من أجلِ التّغيير؟!

في عالم الذّائقةِ الفنّيّةِ الرّفيعةِ، وجمالِ التّعبيرِ الأخّاذِ، وقوّةِ النّصِّ، تصطفُّ الأيامُ تِباعًا مُحتفيةً بضادِنا الجميلةِ، منحنيةً أمام عطائِها الزّاخرِ، غيرَ مستثنيةٍ يومًا واحدًا من أيّامِ إبداعاتِها الدّؤوبةِ لا يعترف فيهِ العالمُ بأسرِهِ بسحرِ أُمِّ اللّغاتِ، وتفرّدِ سيّدةِ التّعبير، ومليكةِ الآدابِ. وإنْ كُنّا نعترفُ بهذا اليومِ يومًا للّغةِ العربيّةِ، فإنَّنا على يقينٍ بأنَّ لِلغتِنا منَ العراقةِ والأصالةِ والتّطوُّرِ، ما يمكِّنُها أنْ تكونَ موضعَ اهتمامِ مُحبّيها منْ مختلفِ الجنسيّاتِ في كلِّ وقتٍ، ومن بقاعِ المعمورةِ كلِّها.

منْ أينَ أبدأُ بسردِ خصالِها الفريدةِ الّتي شغفَتْ قلوبَنا بِها حبًّا، منَ الاشتقاقِ، أمْ منْ دقّةِ الفروقِ بينَ مُترادفاتِها، أمْ من أضدادِها، أم من تذكيرِها وتأنيثِها، أم منْ بلاغتِها وإعجازِها، أمْ منْ موسيقا حروفِها، وشدوِ ضادِها الفريدةِ المتفرّدةِ؟! يليقُ بها النّثرُ عباءةً مَهيبةً موشّحةً مُطرَّزةً، وتزهو بها فنونُ الشّعرِ، وكأنّما خُلِقَ لَها وحدَها منْ بينِ لغاتِ الأرضِ.

لوْ لمْ أكنْ عربيًّا، وكانَ للنّاسِ أنْ يختاروا لغاتِهم لَابتهلْتُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ تقبلَ بيَ العربيّةُ ناطقًا بحرفِها، ولوْ كانَ لعاشقٍ أنْ يتغزّلَ بها ما اختارَ غيرَها لغةً تليقُ ببوحِهِ.

إنَّ اللّغةَ العربيّةَ حالةٌ استثنائيّةٌ منقطعةُ النّظيرِ في عالمِ اللّغاتِ، لا ندَّ لَها ولا مثيلَ، ليسَ تحيّزًا لها لخلودِها وديمومتِها، ولا تعصّبًا لجمالِها الآسرِ، وإنّما وقوفًا على عتباتِ كنوزِها وأسرارِها؛ فهيَ الولودُ المتّسعةُ الرّحبةُ، الفصيحةُ البليغةُ، الموجِزةُ المفصِّلةُ، الأصيلةُ المتجدّدةُ، المتدثّرةُ بالكنايةِ حيثُ شاءَتْ، المزهوَّةُ بالتّصريحِ أنّى أرادَتْ، المختالةُ بالحقيقةِ كوهجِ الشّمسِ، المُزدانةُ بالمجاز كهلالٍ وليدٍ حجبتْهُ غيمةٌ.

ما بينَ توقيفٍ واصطلاحٍ، تفاوتَتْ نظريّاتُ نشوءِ اللّغاتِ، غيرَ أنَّنا نتّفقُ زيادةً عنْ ذلكَ أنَّ عربيّتَنا الفصيحةَ قدْ نمَتْ من عبقريّةِ أبنائها الأوائلِ، وترعرعَتْ في كنفِ كتابِ اللّٰهِ الكريمِ، فكانا عضيديْن، قدّمَ كلٌّ منْهُما لصاحبِهِ خيرَ ما في وفاضهِ، إذْ لمْ يكنِ الاختيارُ الربّانيّ للّغةِ العربيِّةِ لغةً للقرآنِ الكريمِ الّذي اختُتمَتْ بنزولِهِ الرّسالاتُ السّماويةُ عبثًا، وحاشاهُ عزَّ وجلَّ عنِ العبثِ، فهيَ اللّسانُ العربيُّ المبينُ الّذي تشرّفَ باحتضانِ أفكارِ القرآنِ الكريمِ، ومعانيهِ، وصورِهِ، وأوامرِه، ونواهيهِ، وتشريعاتِه وأحكامِهِ، فكانَ الصّورةَ المُثلى في الفصاحةِ والبلاغةِ والبيانِ، الصّالحةَ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، والّتي لمْ يرتقِ إلى منزلَتِها نصُّ منْ قبلِ نزولِ القرآنِ الكريمِ، ولا منْ بعدِهِ. وحفظَ القرآنُ الكريمُ اللّغةَ العربيّةَ، فكانَ النّصُّ القرآنيُّ صلةَ الوصلِ بينَ ماضي اللّغةُ ومستقبلِها؛ ممّا جعلَها نابضةً بالحياةِ، رغمَ كلِّ ما طرأَ عليْها من نموٍّ وتحديثٍ واتّساعٍ، وكلٍّ ما راودَها من ضعفِ أهلِها، وتبدُّلِ أحوالِهم، ووهْنِهِمْ، وتداعي الأممِ عليهِمْ، كما تتداعى الأكَلَةُ إلى قصعَتِها.

تقترنُ كلُّ لغةٍ بالأمّةِ النّاطقةِ بِها، حتّى تغدوَ مرآةً تعكسُ حضارتَها وطريقةَ تفكيرِها، وثقافَتَها، وتُبطُنُ تَطلّعاتِها ومواطِنَ قوّتِها، وجوانبَ انكسارِها وتقهقرِها وانحسارِها؛ حتّى قيلَ إنَّ لغةَ كلِّ أمّةٍ هيَ هويّتُها الّتي تمثّلُها أصدقَ تمثيلٍ، ووعاءُ تفكيرِها وحضارتِها، ومؤشّرُ تطلّعاتِها وطموحاتِها.

إنَّ العلاقةَ التّرابطيّةَ بينَ كلِّ وأمّةٍ ولغتِها، هيَ ما يفرضُ على لغتِنا أنْ تتراجعَ أمامَ غيرِها منَ اللّغاتِ رغمَ كلِّ مسوّغاتِ تقدّمِها وانتشارِها، وإنّي لأجدُ أنَّ لغتَنا تعلونا بفارقٍ مهولٍ في الدّرجاتِ، فهيَ المُنفتحةُ الّتي أخذَتْ منْ غيرِها، فهذّبتْهُ بما ينسجمُ معَ نواميسِها وقواعدِها، ووسمتْهُ بوسمِها، لمْ ترفضْهُ، لكنَّها كيّفتْهُ وفقَ هويّتِها الفريدةِ. وهيَ الواسعةُ الّتي تزيدُ مفرداتُها عنِ اثني عشرَ مليونِ مفردةٍ مقابلَ ستِّمائةِ ألفِ مفردةٍ للّغةِ الإنجليزيّةِ، لغةِ العلومِ والتّواصلِ العالميِّ، ومعَ ذلكَ فهيَ لمْ تنلْ ما تستحقّهُ منْ تقديمٍ وتقديرٍ أمامَ نظيراتِها منَ اللّغاتِ الأخرى، الّتي لا ترتقي إلى حقّ منافستِها، والسّببُ هوَ ما تعانيهِ أمتُنا منْ ضعفٍ نَأى بنا عنْ دورِنا الّذي اضطلعْنا بهِ في بناءِ الحضارةِ الإنسانيّةِ، والإمساكِ بزمامِ القيادةِ، فنَأى بلغتِنا بعيدًا عنْ منزلَتِها الّتي تستحقُّ.

وصدقَ شاعرُ النّيلِ إذْ قالَ فيها مُلَخِّصًا حالَنا على لسانِها:ِ

أنا البحرُ في أحشائِهِ الدّرُّ كامــــنٌ فهلْ سألوا الغوّاصَ عنْ صَدَفاتي
أرى لرجالِ الغـــربِ عزًّا ومنعةً وكمْ عزَّ أقوامٌ بعـــــزِّ لغـــــــاتِ

هيَ دعوةٌ أنْ نكونَ بمستوى لغتِنا الرّفيعِ، وعلى قدرِ خصائصِها الرّاسخاتِ السّامقاتِ، وأنْ نستلهمَ منْ جمالِها وصمودِها وقوّتِها ما يعيدُنا إلى مكانتِنا في طليعةِ الأممِ، ولْيُسجلِ التّاريخُ بينَ صفحاتِه أنَّ لغةً عريقةً جميلةً صامدةً بكلِّ قوّتها قدِ استنهضَتْ أمّةً من غفلتِها، فصعدَتْ إليها تلكَ الأمّةُ لتكونَ أهلًا للغتِها.

تابعوا الوقائع على