معركة الوعي والكرامة .. الأردن وقيادته في مواجهة مشاريع التشويه
أ.د أحمد منصور الخصاونة
الوقائع الإخبارية : انطلاقًا من المتابعة الحثيثة لما يُنشر عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، بات واضحًا بما لا يدع مجالًا للشك أن المملكة الأردنية الهاشمية تتعرض منذ وقت ليس بالقصير لحملات ممنهجة، تتقاطع فيها دوافع التحريض الإعلامي مع مآرب سياسية خفية. هذه الحملات، التي تُدار من وراء ستار في غرف عمليات معتمة، تنطلق أحيانًا من أجندات إقليمية معروفة الأهداف، وتتخذ أحيانًا أخرى من منابر الشتات منصات لبثّ سمومها، يقودها عدو متربص طالما رأى في استقرار الأردن عائقًا أمام مشاريعه المريضة، وها هو اليوم يراهن على خلخلة الداخل عبر ترويج الأكاذيب، وصناعة الإشاعة، وتزييف الوعي.
لكن الأخطر من كل ذلك لا يكمن في العدو الخارجي، بل في تلك القابلية الداخلية للانخداع. فثمة جمهور واسع يستفزه بريق العناوين الملفقة، ويُستدرج بعاطفة صادقة لكنها غير محصّنة، لينخرط – من حيث لا يدري – في إعادة نشر مواد مفبركة تسهم في تشكيل ذاكرة جمعية مشوشة، يُستعصي تصويبها حتى بعد انكشاف زيفها.
إن ما يُروّج ليس اجتهادًا عابرًا ولا خطأً بريئًا، بل تضليل منظم، تمارسه منصات إعلامية مأجورة تتخذ من عواصم كبرى أوكارًا لها، وتستهدف بشكل مباشر صورة الأردن وقيادتة، لا سيما فيما يتصل بمواقفه الأخلاقية الثابتة تجاه الشعب الفلسطيني، وسعيه الدؤوب لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، التي باتت تمثل نموذجًا عالميًا في الكفاءة والمهنية والشفافية.
وقد امتدّ هذا الاستهداف الخبيث ليطال حتى الموقف الشعبي الأردني الأصيل من القضية الفلسطينية، وهو موقف متجذر في الوجدان ، لا تزعزعه حملات التشكيك ولا تنال منه أراجيف اشباة الرجال. بل بلغ الأمر حدّ الطعن في شرعية القيادة الهاشمية ومواقفها النبيلة، في محاولات يائسة لبثّ الشك وزعزعة الثقة. وهنا لا بد من التأكيد – لمن يجهل أو يتجاهل – أن الهاشميين لم يأتوا إلى الأردن طلابَ مُلك أو ساعين وراء سلطان، بل حملوا رسالة النهضة العربية الكبرى، وكانوا رسل وحدة، وصوتًا للأمة حين عزّ الصوت، واستجابةً لنداء التوحيد حين عزّ النصير. لقد كانوا ملوكًا وسادة قبل أن يُعرف للمشرق العربي المعاصر معنى للحدود أو خرائط للدول، وكانوا أمراء على أطهر بقاع الأرض – مكة المكرمة والمدينة المنورة – وأمناء على البيت الحرام، قبل أن تُرسم خرائط سايكس وبيكو في ظلال الاستعمار. وحين كانت الأمة تفتش عن مشعلٍ يقودها من عتمة الاستعباد إلى نور الحرية، اختاروا الأردن لا ترفًا سياسيًا، بل تكليفًا قوميًا ومسؤولية تاريخية حملوها بشرف ونقاء. جاؤوا ليعلوا منبر الوحدة، لا ليحولوا الأرض ساحةً لتصفية الحسابات أو مسرحًا لمشاريع استعمارية دخيلة.
ولمن لا يزال يتساءل أو يشكك، فليسأل عن آلاف الشهداء الأردنيين الذين ارتقت أرواحهم الطاهرة على ثرى فلسطين، دفاعًا عن القدس والكرامة، وعن الأردنيين الذين اقتسموا لقمة العيش مع أشقائهم في فلسطين، لا طلبًا لشكر ولا سعياً لثناء، بل وفاءً لعقيدة الأمة وامتثالًا لوصايا التاريخ ونداء الضمير.إن ما نواجهه اليوم ليس سحابة صيف إعلامية، بل هجوم مركّب يستهدف تقويض شرعية الدولة، والنيل من رمزيتها، وتشويه مكانتها كدولة مرجعية للأخلاق، والإنسانية، والمواقف الثابتة.
ويعتمد هذا الهجوم على هشاشة بعض العقول في الداخل، ممن ينساقون – بجهل أو بعصبية سياسية أو بدافع أيديولوجي – وراء روايات مشوهة، يفتقر معظمها إلى الحدّ الأدنى من المنطق أو الإنصاف. وهنا يجب أن نفرّق بوضوح بين النقد البناء النابع من الحرص والمسؤولية، وبين التجريح الممنهج والتشكيك المدفوع الذي يستهدف ضرب الثقة والمؤسسات. فالدفاع عن الوطن ليس اصطفافًا عاطفيًا، بل وعيٌ بمكانة الدولة، ومسؤولية في التصدي لكل من يحاول زعزعة بنيانها الرمزي والمعنوي. ومواجهة الإشاعة اليوم لا تقل أهمية عن حماية حدود الوطن، إن لم تكن أكثر.
لقد أثبتت الأيام أن الكذبة إن أُطلقت ثم ضخّمها المأجورون، وأعاد تداولها الغافلون، كادت أن تطمس الحقائق، وتعيد تشكيل الإدراك العام. إلا أن الأردن، رغم قلة أدواته الإعلامية، يملك ما لا تملكه تلك الأبواق: الموقف النظيف، والتاريخ النقي، والإرث الذي لا يُشترى. وإذا كان هذا الوطن قد اختار منذ تأسيسه طريق الشرف والكرامة، فإنه يدرك تمامًا أنه سيكون دائمًا في مرمى الحاقدين، لأنه ببساطة لم يبع قضاياه، ولم يساوم على الحق، ولم يحد عن العدل مهما اشتدت العواصف.
ولا ريب أن هذه الحرب الإعلامية المسعورة لا يمكن التصدي لها بردود رسمية فقط، بل تتطلب حراكًا دبلوماسيًا متكاملًا تقوده وزارة الخارجية بالشراكة مع الهيئة الخيرية الهاشمية ومؤسسات الإعلام الوطني، لحثّ الشركاء الدوليين على إعلان مواقفهم الصريحة، وتفنيد الأكاذيب التي تستهدف أحد أكثر النماذج صدقًا في العمل الإنساني والأخلاقي في المنطقة. فالمعركة ليست مع "المحتوى"، بل مع "الرمز"، ومع الدولة بصفتها ركيزة استقرار في الإقليم، ومنارة للأمان في زمن اختلطت فيه الرايات والدوافع.
ولو أتيح لنا موقع القرار، لوجّهنا نداءً وطنيًا صريحًا بعدم الالتفات لترهات الأقزام ومهاتراتهم، لأن الرد عليهم يهبط بالخطاب الوطني إلى مستواهم، ويمنحهم حجمًا لا يستحقونه، فيما الواجب أن يُترك الأمر لمؤسسات الدولة لترد بميزان القانون والمنطق والحقائق. فالأردن ليس دولة عابرة في ذاكرة الجغرافيا، بل هو كيان راسخ متجذر، وأسمى من أن يُقحم في معارك الوحل، وأقوى من أن تهزه حملات الشتات الإعلامي، مهما تلونت أو تنكرت.
وفي المقابل، فإن التهاون مع من يروجون من الداخل لهذه الحملات – تحت عباءة النقد أو حرية التعبير – يعد تفريطًا جسيمًا بحق الوطن. فحماية الأردن لا تكون فقط على الجبهات، بل أيضًا في ساحة الوعي، وميادين الإدراك، وكل كلمة تُقال أو تُكتب.
فالوطن الذي دافع عن شرف الأمة، يستحق أن ندافع عنه من طعنات الداخل كما من سهام الخارج.


















