عجزٌ ماليٌ .. هل بات إفلاس السلطة الفلسطينية وشيكًا؟
الوقائع الاخبارية: أزمة مالية خانقة لا مثيل لها تعيشها السلطة الفلسطينية، فأموال المقاصّة التي تشكّل نحو 68 في المئة من إيرادات الخزينة باتت تتقلص رويدًا رويدًا منذ أحداث 7 تشرين أول/ أكتوبر، وما أعقبها من حرب إسرائيلية على قطاع غزة، مع زيادة وتيرة الاعتداءات على الضفة الغربية وتقطيع أوصالها.
وتظهر الأرقام الصادرة عن وزارة المالية أن السلطة الفلسطينية اصطدمت في الحائط ماليًا، إذ أن المعدل الطبيعي لأموال المقاصة شهريًا كانت يصل إلى قرابة مليار شيقل، مقابل مجمل إيرادات بلغت ما بين 1.3 إلى 1.4 مليار شيقل شهريًا، لكن الأرقام الصادرة تبيّن عجزًا غير مسبوق.
وبموجب اتفاقية باريس الاقتصادية الموقّعة بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية، يقوم الاحتلال بجمع أموال الضرائب الفلسطينية التي تُفرض على البضائع المستوردة مقابل رسوم إدارية تقدّر بـ 3 في المئة، أي نحو 30 مليون شيقل شهريًا.
لكن حجم الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة وصل إلى أكثر من ذلك بكثير، إذ يقوم الاحتلال بخصم مستحقات، تحت بند "صافي الإقراض"، على خدمات تقدّمها شركات ومجالس محلية مورّدة من الجانب الإسرائيلي مثل الكهرباء والمياه وخدمات صحية، وتصل قيمة هذه الاقتطاعات شهريًا إلى 100 مليون شيقل في المتوسط.
وفي عام 2019 نفذ الاحتلال الإسرائيلي قانونًا، أقرّه الكنيست، باقتطاع بدل رواتب الأسرى وأسر الشهداء والجرحى، الذي يقدر بنحو 51.7 مليون شيقل شهريًا. أي أن إجمالي الخصومات الإسرائيلية من أموال المقاصة كانت تصل قبل الحرب إلى قرابة 180-200 مليون شيكل ليتبقى للسلطة الفلسطينية 800 مليون شيقل من أصل مليار شيقل.
ومنذ بدء الحرب على قطاع غزة، قررت الحكومة الإسرائيلية اقتطاع قرابة 275 مليون شيقل بدعوى أنها "حصة قطاع غزة"، ليصل إجمالي الخصومات الشهرية إلى نحو 455 مليون شيقل شهريًا؛ أي نصف قيمة ضريبة المقاصة في الأحوال الطبيعية.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ لم تعد تصل أموال المقاصة المسجّلة شهريًا إلى المليار شيقل، ونتيجة للأزمة الاقتصادية التي تمر بها فلسطين تراجعت قيمة هذه الضريبة بنحو 25-30 في المئة، ويظهر هذا جليًا في المبالغ التي تم تسجيلها خلال الأشهر الماضية، فقد وصل المبلغ الإجمالي المسجل لضريبة المقاصة مع نهاية كانون الثاني/ ديسمبر الماضي إلى نحو 753 مليون شيقل، وإلى 770 مع نهاية شباط/فبراير، وبعد خصم الرسوم الإدارية وبدل "صافي الإقراض" تبقى فقط 543 مليون شيقل فقط.
ماذا تقول أرقام وزارة المالية؟
وقالت وزارة المالية الفلسطينية في تقريرها الشهري، إنّه "في كانون الثاني 2024 لم يتم استلام أي مبالغ نقدية من إيرادات المقاصّة، واستمر الخصم غير القانوني بنفس القيمة بخصوص الخصومات المتعلقة بالأسرى بمبلغ 51.7 مليون شيقل، وغزة بمبلغ 275 مليون شيقل، حيث تم استلام باقي إيرادات المقاصة بعد الخصومات بمبلغ 216.4 مليون شيقل في شهر شباط 2024".
ولم يكن الانخفاض الكبير في إيرادات المقاصّة التراجع الوحيد، فقد بلغ إجمالي صافي الإيرادات (على الأساس النقدي) في شهر أيلول/ سبتمبر 2023 (1,449.5) مليون شيقل، في حين انخفضت تلك القيمة إلى (537.2) مليون شيقل في شهر تشرين ثان/ نوفمبر 2023، أي بنسبة انخفاض 63 في المئة، مقارنة عمّا كانت عليه قبل الحرب على غزة، وحصار الضفة الغربية، وارتفعت تلك القيمة إلى (1,271.1) مليون شيكل في شهر شباط/ فبراير 2024، ولكنّها بقيت أقل مما كانت عليه قبل الحرب.
كما بلغ إجمالي الإيرادات المحلية (على الأساس النقدي) في شهر أيلول/ سبتمبر 2023 (483.6) مليون شيقل، في حين انخفضت تلك القيمة إلى (264.5) مليون شيقل في شهر كانون أول/نوفمبر 2023، أي انخفضت بنسبة 55 في المئة عما كانت عليه قبل الحرب على غزة، وحصار الضفة الغربية، وارتفعت تلك القيمة إلى (426.2) مليون شيقل في شهر شباط/ فبراير 2024، ولكنها بقيت أقل مما كانت عليه قبل الحرب.
وبلغ مقدار الدعم العربي للموازنة العامة الفلسطينية منذ بداية العام الحالي 2024 ولغاية شهر شباط/ فبراير "صفر شيقل"، بينما بلغ مقدار الدعم الخارجي للموازنة العامّة منذ بداية العام ولغاية ذات الشهر نحو 180.64 مليون شيقل فقط، وهو من آلية بيغاس الأوروبية والبنك الدولي، وهو عبارة عن دعم مخصص، وليس للخزينة العامة.
وتظهر الأرقام السابقة عجزًا ماليًا غير مسبوق للسلطة الفلسطينية، إذ وصلت السيولة النقدية المتوفرة من أموال المقاصة والإيرادات المحلية إلى نحو 700-750 مليون شيقل فقط، مع توقف الدول المانحة عن توفير دعم لموازنة السلطة الفلسطينية واستمرار الاقتطاعات الإسرائيلية، وهذه لا تكفي لسداد 60-70 في المئة من التزاماتها (قيمة فاتورة الرواتب الشهرية وأشباه الرواتب تصل إلى مليار شيقل شهريًا) عدا عن ديون مستحقة لصالح القطاع الخاص.
ويشار إلى أن السلطة الفلسطينية مدعوة ابتداء من شهر تموز/ يوليو المقبل إلى البدء بتسديد دفعات القرض المجمع الذي حصلت عليه نهاية العام الماضي من عدة بنوك، والبالغ نحو 388 مليون دولار أي 1.4 مليار شيقل، إذ تقدر القيمة الشهرية لهذا القرض بنحو 110-120 مليون شيقل ما يعني زيادة الضغط المالي على السلطة الفلسطينية.
يقول الباحث الاقتصادي المختص في شؤون الموازنة مؤيد عفانة لـ"الترا فلسطين" إن الوضع المالي الحالي الذي وصلت إليه السلطة الفلسطينية لا يعبرّ عن أزمة مالية خانقة فحسب، فالأزمة بدأت فعليًا قبل سنوات، وتراكمت نتيجة سياسات مالية خاطئة، وبسبب تراجع المساعدات الدولية، والقرصنة التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي لأموال المقاصة.
ويشير إلى أن أموال المقاصة خلال الحرب تآكلت ليس فقط بسبب الاقتطاعات الإسرائيلية التي تزايدت بشكل كبير مع اقتطاع الأموال المخصصة لقطاع غزة، بل إن الدورة الاقتصادية أصيبت بضرر كبير، وهذا أضرّ بحركة الاستيراد خاصة إلى قطاع غزة، ما انعكس سلبًا على إيرادات المقاصّة.
وينوّه إلى أن الديون المتراكمة لصالح موظفي القطاع العام على السلطة الفلسطينية وصلت مع نهاية آذار/ مارس الماضي إلى نحو 508 في المئة من إجمالي رواتب الموظفين الذين تزيد رواتبهم عن 2000 شيقل، بالإضافة إلى متأخرات للقطاع الخاص تصل قرابة 1.3 مليار شيقل عن العام الماضي فقط.
ويؤكد أن الوضع الحالي يستدعي معالجة جراحية خاصة مع وصول الدين العام (قروض محلية وخارجية ومستحقات للقطاع الخاص والموظفين وصندوق التقاعد) إلى نحو 32 مليار شيقل.
كيف نقلل من أثر الأزمة؟
ويضيف: نحن أمام أزمة مفتوحة ولا سبيل لحلها دون حصول انفراج سياسي، لافتًا إلى أنّ السلطة مدعوّة لإجراء عدة خطوات لتخفيض الإنفاق العام، ومنها معالجة مشكلة صافي الإقراض التي التهمت جزءًا من الأموال العامة، فهي أموال تدفعها السلطة الفلسطينية عن مجالس محلية تقدّم خدمات للمواطنين وتقوم بعملية الجباية منهم.
ويتابع: من بين الخطوات كذلك يمكن معالجة موضوع التحويلات الطبية، فرغم تراجعها للخارج في السنوات الأخيرة، غير أنّ قيمتها سنويًا تصل مليار شيقل، وهذه يمكن ضبطتها بتقديم الخدمة في المستشفيات الحكومية.
كما دعا إلى إعادة النظر في رواتب "غير مبررة" تصل إلى قرابة 300-350 مليون شيقل منها ما هو مخصص لعناصر التنظيمات الفلسطينية، تم منحها لأغراض سياسية، وأكّد ضرورة مراجعة ملف النفقات التحويلية بما فيها المساعدات الاجتماعية وضبطها على أسس ومعايير مهنية.
ولفت إلى أهمية أن تقوم السلطة الفلسطينية برفع دعوى قضائية على "إسرائيل" في المحاكم الدولية، فهذه أموال تدفع من جيب المواطن الفلسطيني، ويقوم الاحتلال بجبايتها وفق اتفاقية تجارية (بروتوكول باريس الاقتصادي) ولا علاقة للسياسة بها.
يذكر أن فاتورة الرواتب تشكل نحو 52 في المئة من إجمالي النفقات، وترتفع النسبة إلى نحو 80 في المئة من حجم الإنفاق بإضافة "أشباه الرواتب" والنفقات التحويلية.
وبالمجمل وصل إجمالي الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة إلى نحو 900 مليون دولار عن العام 2023، وبالمحصلة يزيد المبلغ عن 4.5 مليار شيقل منذ عام 2019، فيما تراجعت المساعدات الدولية منذ عام 2017 إلى أقل من 700 مليون شيقل بالمتوسط بعد أن كانت تصل قرابة 3.5 مليار شيقل.
ويتفق "مصرفيّ كبير" فضّل عدم الكشف عن اسمه تحدث مع "الترا فلسطين" حول الرؤية المالية للأشهر المقبلة، فما بحوزة السلطة الفلسطينية من هامش مالي بالكاد يكفي لتسديد 50 في المئة من التزامتها حسب تقديراته.
ويضيف أنّ الوضع صعب ومعقّد، ولا أحد يعرف إلى أين ستؤول الأمور، لكنه يتوقع حصول انفراجة مع حديث غير المؤكد عن دعم سعودي مقبل للسلطة الفلسطينية. وتابع: "حسب المعطيات المالية الحالية الوضع معقّد للغاية، والأمر مرهون بحل سياسي واستئناف الدعم الدولي للموازنة العامة، ومعالجة قضية الأموال التي يحتجزها الاحتلال الإسرائيلي، ودون ذلك فإن الأزمة ستتفاقم".