الأردن أولًا: طيُّ الصفحات القديمة وفتح بوابة الأمل
ا.د احمد منصور الخصاونة
من أحبَّ الأردن بحق، فليتراجع خطوةً إلى الوراء، ويتقدَّم خطوتين إلى الأمام. ففي زمن الفتن، لا صوت يعلو فوق صوت الحكمة، ولا نجاة إلّا بالتعقّل. فالفتنة إذا اشتعلت، لا تُبقي ولا تذر؛ تلتهم الأخضر واليابس، وتستأصل القريب قبل البعيد. وواجبنا الوطني المقدَّس أن نُخمِد شرارتها قبل أن تستفحل وتبتلع الجميع. نحن أبناء هذا الثرى الطاهر، أردنيون من شتّى الأصول والمنابت؛ إسلاميون، حزبيون، مستقلّون، من الشرق والغرب، اليمين واليسار، ومن الشمال والجنوب، ومن كل الأطياف. يجمعنا الأردن بأرضه المباركة، ورايته الخفّاقة، وقيادته الهاشمية الحكيمة، ويربطنا دم الشهداء الطاهر الذي روى ثرى الأردن، وتراب فلسطين المقدّسة. وإن اختلفنا، فلنتحاور بالحُسنى، ولنتباين برُقي، بلا تخوين ولا تجريح؛ فالاختلاف سنّة الله في خلقه، كما تتجاور الجبال والسهول والوديان، وتُسقى الأشجار بماء واحد، وتُغرس في تربة واحدة، ومع ذلك تتباين طعمًا ولونًا وثمرًا.
يجب أن تتوقّف فورًا حملات التحريض؛ فلا تطاوُل على الوطن، ولا على أيٍّ من مكوّناته. كما ينبغي أن نبتعد عن خطابات الكراهية، وعن نشر المعلومات المضلِّلة، وعن كل أشكال التطرّف. فلا علاج لهذا الداء إلا بإعلام واعٍ، شجاع، حرٍّ، مسؤول؛ لا بإعلام التحريض، ولا بتصفية الحسابات الشخصية. ولا يجوز، تحت أي ظرف، أن يُساء إلى الإسلاميين أو رموزهم، كما لا يجوز أن يسيء الإسلاميون إلى غيرهم؛ فكلا المسلكين وقودٌ لنار الفتنة، وطعنٌ قاتل لوحدة الوطن. إننا جميعًا أبناء وطنٍ واحد، إخوة في المصير، وشركاء في الهمّ والأمل. وعلى العقلاء والحكماء من كل الأطراف أن يبادروا إلى إطلاق حوارات وطنية رشيدة: تجمع ولا تفرّق، تبني ولا تهدم، توحّد ولا تشتّت، ليقف الأردن بأبنائه صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضًا.
وفي قلب هذا المشهد الوطني، تظل القيادة الهاشمية الرشيدة صمّام الأمان، وركن السكينة، ومرجعية الاتزان. فهي قيادة متجذّرة في شرعية النسب والمقام، من سلالة المصطفى ﷺ، لم تنكفئ يومًا عن شعبها، ولم تدّخر جهدًا في حماية الوطن وصون كرامة أبنائه. هذه القيادة الهاشمية، التي رفعت لواء العروبة، ونافحت عن الكرامة، وتقدّمت الصفوف دفاعًا عن القضايا العادلة، تمثّل اليوم فرصة تاريخية لبناء وطنٍ نجا من عواصف الإقليم، وحافظ على تماسكه وسط حرائق الجوار، وقادر - إن خلُصت النوايا - أن يتحوّل إلى أنموذجٍ للإصلاح الرشيد، والتنمية المتوازنة، والتلاحم الحقيقي بين القيادة والشعب. فلنغتنم هذه اللحظة، ونتجاوز العثرات، ونُعلي صوت العقل على الضجيج، حتى يُشرق فجرٌ جديد، يليق بهذا الوطن العظيم وأهله الأوفياء.
وقد قال النبي الكريم ﷺ: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار." فاحذروا؛ فالانقسام سهمٌ مسموم يُغرس في قلب الوطن، أما الوحدة، فهي درعٌ لا يُثلم ولا يُكسر.
نحن نعيش في ظل دولة مؤسسات، يحكمها القانون، ويُصان فيها العدل، ويُحترم فيها النظام، وتُحفظ فيها الحقوق والكرامات. ومن أخطأ، فالقضاء هو الفيصل، لا ساحات التشهير، ولا منصّات التواصل العابثة بكرامات الأفراد وهيبة المؤسسات. ونثق بأجهزتنا الأمنية ثقة الجبال الرواسي، ونؤمن إيمانًا راسخًا بأن سيادة القانون فوق الجميع، وأنها الركيزة الصلبة التي يقوم عليها أمن الأردن واستقراره.
أما عن قناعاتي الشخصية، والتي طالما أفصحتُ عنها ونصحت بها، فهي أن تيارًا من التشدّد والاندفاع، بكل أسف، كان من أبرز أسباب إجهاض مشروعٍ إصلاحيّ بنيويٍّ عريق، رعته الدولة على مدى أكثر من ثمانية عقود، واحتضنته مؤسساتها، وكان يمكن - لو تولّاه الاعتدال - أن يظل منارة للأجيال، يغرس القيم، ويبثّ روح السماحة، ويجسّد أخلاق الإسلام الحنيف في أبهى صورها. إلا أن التصريحات المتشنّجة، والأنشطة المرتجلة، والخلايا التي زُجّ بها في المشهد من خارج السياق الوطني، عجّلت بتآكل الثقة، ورفعت منسوب التوتر، وضيّعت البوصلة، وأفقدت المشروع صدقيته ومشروعيته. ولم يُبادر أولئك يومًا إلى تصويب أوضاعهم القانونية، أو تنظيم عملهم ضمن الأطر الوطنية الجامعة، بل ظلّوا أسرى خطاب المظلومية، يتخذونه ذريعةً للفوضى، ويتوسّلون بالصدام وسيلةً لانتزاع شرعيةٍ لم تُمنح، ولن تُمنح بمثل هذا النهج.
ومن هنا، فإن النداء اليوم موجّه إلى رموز التيار الإسلامي المعتدل، وإلى النخب الوطنية الصادقة، لتحمّل مسؤولياتهم التاريخية في لحظة مفصلية من تاريخ الدولة. لقد كان الأردن دومًا في صلب أولوياتهم، وكان خطابهم رصينًا، ورؤيتهم متّزنة، ومواقفهم مشبعة بالانتماء والوعي. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن بأمسِّ الحاجة إلى هؤلاء العقلاء الذين يضعون الوطن فوق كل اعتبار، ويعيدون الأمل إلى تيار الوسطية، ويحفظون منجزات وحدتنا، ويحتضنون شباب الأمّة – من إسلاميين، وحزبيين، ومستقلين – فهم رصيد هذا الوطن، وعدّته في المستقبل. وعلى الدولة، في المقابل، أن تتبنّى هذا الجيل، وتُنمّي طاقاته ومواهبه، وتفتح أمامه آفاق العمل التطوعي والاجتماعي والدعوي، ليكون جزءًا حيًّا من مسيرة النهوض الأردنية.
فإغلاق مقرات الإخوان المسلمين ليس نهاية الطريق، لأن الأفكار البنّاءة لا تُغلق بمفتاح، ولا تُجهض بقرار؛ بل تنتقل من جيل إلى جيل. فلنُحوّل هذه الأفكار لخدمة الأردن، وفلسطين، وقضايا أمتنا الكبرى، ونهضة العالم أجمع. بدلًا من أن تكون معولًا للهدم والفرقة. ولتكن البداية بإطلاق حوارات وطنية يقودها الشباب، عنوانها: الوعي، والرقي، والانتماء. فالأوطان لا تُبنى بالخطابات المتشنجة ولا بالشعارات العالية، بل تُبنى بالعمل الدؤوب، والتوجيه الصادق، والتضحية الواعية. فلنرفع منسوب الوعي، ولنخفض منسوب التوتر، ولنختلف برُقيّ، ونلتقي بمحبة؛ فبهذا وحده نصون الأردن ونردّ له جميله.
أما "الخلية"، فقد باتت اليوم في عهدة القضاء الأردني النزيه الذي نثق بعدالته. و"الحظر" كذلك، وقد بات في ذمّة التاريخ. ولا الحكمة تقتضي أن نظل أسرى لماضٍ مليء بالصدام، ولا المصلحة الوطنية تحتمل اجترار الخلافات. لقد آن الأوان لطيّ الصفحة، بإرادة وطنية ناضجة، وفتح صفحة جديدة، عنوانها: البناء، والأمل، والتسامح المسؤول. إن قرار الدولة بحل جماعة الإخوان المسلمين لم يكن لحظة قطيعة، بقدر ما كان محطةً في مسيرة الوعي، ودليلًا على أن الدولة، دولة مؤسسات وقانون، تمهل لكنها لا تهمل، تعطي الفرص لكنها لا تقبل المساومة على الثوابت. وهذه ليست نهاية الطريق، بل بداية جديدة، لمن أراد العودة إلى حضن الوطن، والمشاركة في بنائه من داخل الإطار الوطني الشامل. فكثير من أبناء هذه الجماعة هم من خيرة أبناء الأردن؛ خدموا وطنهم في ميادين التعليم، والدعوة، والعمل العام، وكانوا نماذج مشرّفة في الانتماء والكفاءة. وفيهم من لا يزال قادرًا على العطاء، ضمن دولة القانون والمؤسسات، وفيهم من يمكن أن يكون رصيدًا للوطن، لا عبئًا عليه. فلنحتضن الطاقات، ولنوجّه الإمكانات؛ فهم جزء من نسيج الأردن، لا خصوم له، وهم أدوات نهضته، لا معاول لهدمه.
لن يكون لنا مستقبل إلا بالشراكة الوطنية، على قاعدة المواطنة الصادقة، واحترام سيادة القانون، والإيمان بثوابت الدولة وشرعية القيادة الهاشمية. فلنمدّ الجسور لا أن نحفر الخنادق، ولنحوّل الاختلاف إلى تنوّع، ومن التنوّع إلى ثراء، ومن التعدّد إلى وحدةٍ في الهدف والمصير. فالأردن يتّسع للجميع، والوطن اليوم أحوج ما يكون لكل فكرةٍ مخلصة، ولكل هِمّة صادقة، ولكل ساعدٍ يبني. فلنمنح شبابنا فضاءً يليق بطموحاتهم، ونفتح أمامهم أبواب الأمل، ونُطلق حوارات وطنية راشدة، عنوانها: الوعي، والرقي، والانتماء.
نريد أن نبني الأردن الأنموذج من جميع الاتجاهات، وبكل الأوفياء: يسارًا، ويمينًا، ووسطًا، إسلاميين، ومسيحيين، وقوميين، وشيوعيين، من السهول والوديان، من المدن والقرى، من الأرياف والمخيّمات والبادية. وليس لنا من همّ إلّا الوطن، وليس لنا من ولاء إلّا لقيادتنا الهاشمية، وليس لنا من غاية إلّا أن يكون الأردن كما نريد: وطنًا قويًّا، عزيزًا، متماسكًا.
ومن هنا، فإننا ندعو إلى إطلاق مبادرة وطنية شاملة، تنبع من قلب الدولة، وتُلامس وجدان الشعب، تحت عنوان: "ميثاق الأردن الجامع"؛ ميثاق يلتقي فيه الأردنيون على كلمة سواء، يرسّخ قيم المواطنة، ويؤصّل للعيش المشترك، ويعيد الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، بعيدًا عن الإقصاء، والتخوين، والشعبويات، والمزايدات. ميثاقٌ تُشارك في صياغته النخب، وتُصغي له الدولة، ويقوده الشباب، وتحتضنه القيادة، ليكون حجر الأساس لمستقبلٍ أكثر استقرارًا، وعدالة، ورسوخًا. فلنكتبه معًا، بحبر الانتماء، على ورقٍ من الكرامة، وتحت رايةٍ هاشميةٍ نذرت نفسها للأردن، وحملت سفينته في العواصف، ولا تزال ترسو به إلى شواطئ الأمان.
قد تتعدّد اتجاهاتنا، لكننا نتّحد على هدفٍ واحد: الوطن.

















