الزرقاوية أم حنين

الزرقاوية أم حنين
مثل نسمة لطيفة، تتحرك بين طاولات المطعم العديدة، والمليئة بالزبائن. تحمل صينيتها المليئة بالأطباق، وتبتسم للجميع، وتحادثهم حول طلباتهم، أو يلهج لسانها بالدعاء لآخرين. تلك هي أم حنين، العاملة في أحد مطاعم مدينة الزرقاء، والتي التقيناها مصادفة؛ زميلاتي وزملائي في مؤسسة عبد الحميد شومان وأنا، خلال زيارتنا للمدينة قبل أسبوعين. وحين أنهينا عملنا، أصر زميلنا عيسى نشيوات، كواحد من أبناء المدينة، على أن يدعونا لتناول "برنش” في أحد مطاعم الزرقاء. حين تدخل المطعم، لا بد أن تستشعر الطاقة الإيجابية التي تبثها المرأة الأربعينية أم حنين في المكان بأكمله، فهي شعلة نشاط لا تهدأ؛ تسجل طلبات الزبائن، وتوجه العاملين الآخرين في العمل، وتجلب أطباق الطعام من الطابق الأسفل إلى الأعلى المخصص للعائلات. فوق ذلك كله، فهي توجه الزبائن إلى الذي يمكن أن يطلبوه، وإن طلبوا فوق حاجة طاولتهم، تؤكد لهم أن طلباتهم كثيرة، وسوف لن ينهوها جميعها، مقترحة عليهم اختصارها، مع ابتسامة وتأكيد بأنها ستجلب لهم طبقاً أو أكثر ضيافة منها. مثل هذه المرأة لا بد أن تسترعي انتباهك، لذلك وقبل مغادرتنا، وقفت معها، وسألتها عن عملها وحياتها. قالت إنها انضمت للعمل في المطعم قبل سبع سنوات، وتؤكد أنها تحب عملها وتعتز به وترتبط به كثيرا كواحد من أولويتها في الحياة، فهي استطاعت من خلاله أن ترسل ابنتين لها إلى الجامعة وهما اليوم على مقاعد الدراسة. تتحدث أم حنين بفخر واعتزاز عن إنجازها هذا، وهو فخر مستحق بلا أي شك، خصوصا أنها تحاول أن تسهم في تحسين المستقبل واشتراطاته لأبنائها. لكنّ فخراً آخر ينبغي أن نتنبه إليه هنا، وهو ذلك المطعم الذي يديره بكامل أقسامه الإنتاجية والخدمية أردنيون من أبناء المدينة، وبمنتهى الحرفية، خصوصاً في التعامل مع الزبائن. وما يجعل من هذا المطعم أنموذجاً حقيقياً هو أن الطابق الثاني المخصص للعائلات تديره أم حنين بمعاونة عدد من الصبايا اللواتي وجدن في هذا العمل نوعاً من تحقيق الذات وكقيمة مجتمعية قبل أن تكون قيمة مالية. صاحب المطعم هذا ينفع أن يكون أنموذجا لأصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة في التوجه إلى تشغيل الأردنيين ومنحهم الفرصة لتحقيق ذاتهم، خصوصا المرأة التي ما تزال تعاني من التمييز في مجال العمل، سواء بالتشغيل أو بالأجور، بينما يمنحها هذا المطعم ما يمكن اعتباره تمكينا اقتصاديا تستطيع من خلاله أن تحقق الاستقلالية المالية التي ستحررها من النظرة الاجتماعية الضيقة في أنها ضعيفة وغير قادرة على الاستقلالية أو إدارة شؤون حياتها بنفسها. قطاع الخدمات في الأردن واحد من القطاعات التي تعاني تشوها واضحا من خلال اعتماده بشكل كبير جدا على الأيدي العاملة الوافدة، وهو اعتماد يحاول أن يبرره أصحاب القطاعات بمقولات عفا عليها الزمن، مثل "ثقافة العيب”، و”التجهم” وعدم الاحترافية في التعامل مع الزبائن. والحقيقة أن مثل هذه الادعاءات لا تصمد أبدا أمام الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يختبرها الأردنيون اليوم، ولا أمام حاجتهم إلى العمل في الوقت الذي تبلغ فيه البطالة نسبة 19.1 %، بينما تبلغ بين الشباب 37.2 %، فيما تبلغ بين الإناث 27.5 %. فهل يمكن أن نصدق اليوم مقولات أصحاب العمل الذي يفضلون العمالة الوافدة كونهم لا يراعون القوانين في تشغيلها!! تحية لصاحب المطعم الذي لا بد أنه ينطلق من مفهوم وطني لرأس المال، وتحية لأم حنين التي تتصرف كقائد فوق مساحتها الكاملة.

تابعوا الوقائع على