شبح الحرب التجارية.. هكذا أصبحت أيرلندا قنبلة تهدد بتفجير العلاقات الأوروبية البريطانية
الوقائع الاخبارية : عادت لغة التهديد بحرب تجارية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لتطفو على السطح من جديد، وذلك بعد الخطوة المفاجئة التي أعلنتها الحكومة البريطانية بإدخال تعديلات على اتفاق الخروج من الاتحاد في شقه المتعلق بالوضع الخاص بأيرلندا الشمالية أو ما يسمى "بروتوكول أيرلندا".
وهذا الملف يعدّ من أكثر الملفات حساسية للأمن القومي البريطاني وأكثرها خطورة، حيث يتداخل فيه ما هو اقتصادي بما هو سياسي وأمني، ولا يقتصر على علاقات لندن بالتكتل الأوروبي، بل يتجاوزه إلى العلاقات مع الولايات المتحدة التي تراقب من كثب كل التطورات التي تحدث في الملف الأيرلندي.
تبعات الحرب الروسية في أوكرانيا، ومستوى التضخم القياسي في بريطانيا (الأعلى منذ نحو نصف قرن) لم يمنعا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من دخول معركة كسر عظم مع الاتحاد الأوروبي، ولو كلفه ذلك حربا تجارية ستكون خسائرها مدمرة لاقتصاد بلاده كما للاقتصاد الأوروبي.
نقاط الخلاف
بنى بوريس جونسون حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي على سردية استعادة سيادة البلاد، وبعد سنوات يجد نفسه يصطدم بواقع صعب يتعلق بوضع أيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة، حيث تم الاتفاق مع الأوروبيين على أن يكون تفتيش البضائع التي ترد من المملكة المتحدة على الجزيرة الأيرلندية في البحر سواء كانت موجهة إلى أيرلندا الشمالية أو جمهورية أيرلندا.
وضع جعل سيادة المملكة المتحدة على جزء من أراضيها منقوصة، وهو يثير غضب التيار الوحدوي في أيرلندا الشمالية الذي يرى في تفتيش السلع الذي ترد عليه من بريطانيا في البحر كأنه فصل لبلادهم عن تاج الملكة.
وتتركز أهم نقاط الخلاف في ملفين حاسمين: الأول حركة السلع والبضائع، إذ ينص الاتفاق الحالي على أن البضائع التي ترد على جزيرة أيرلندا يجب أن تراعي المعايير الأوروبية.
ولكن الحكومة البريطانية ترى في هذا البند تقسيما للسوق البريطانية وتمييزا ضد أيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة، وإنقاصا من سيادة المملكة المتحدة على مياهها الإقليمية أيضا.
ولهذا تقترح بريطانيا تخصيص "خط أخضر" للسلع البريطانية الموجهة لأيرلندا الشمالية ولا تخضع لأي مراقبة أو معايير أوروبية، وفي المقابل تخصيص "خط أحمر" لتلك الموجهة لجمهورية أيرلندا وتخضع للمراقبة الأوروبية.
إلا أن الأوروبيين يرفضون هذا الخيار تحت مبرر أن الطريق بين المملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية هو من الطرق التي تُستغل في التهريب.
أما نقطة الخلاف الثانية فهي رفض المملكة المتحدة أن يكون القرار النهائي في أي خلاف تجاري ينشب بين المملكة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالوضع التجاري في أيرلندا لمحكمة العدل الأوروبية.
وتريد الحكومة البريطانية أن يُلجأ إلى التحكيم الدولي عند نشوب أي خلاف بين بروكسل ولندن، عوض اللجوء إلى محكمة العدل الأوروبية.
صراع سياسي
بعد 6 أشهر من المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لإيجاد حلول وسط للبروتوكول الخاص بأيرلندا وصل الطرفان إلى طريق مسدود، فدفع ذلك الحكومة البريطانية إلى تحضير مشروع قانون تعرضه على البرلمان يعدّل هذا البروتوكول ويمنح لندن حرية نقل البضائع إلى أيرلندا من دون أي رقابة أوروبية.
إلا أن هذه الخطوة أحدثت صدمة لدى 4 جهات مهمة، أولها الاتحاد الأوروبي، والجهة الثانية هي الحزب الوحدوي الأيرلندي، والثالثة هي حزب "شين فين" القومي الذي فاز بالصدارة في انتخابات أيرلندا الشمالية، وأخيرا الولايات المتحدة. ويرى الاتحاد الأوروبي أن هذه الخطوة خرق للقانون الدولي إذ سوف تتراجع بريطانيا بشكل أحادي عن اتفاق سبق إبرامه، وهدد الاتحاد بأن خطوة مشابهة سوف تهدد الأمن والاستقرار في أيرلندا وفي أوروبا، في إشارة إلى إمكانية عودة المواجهات بين الوحدويين والجمهوريين في أيرلندا.
أما الحزب الوحدوي الأيرلندي فقد أعلن تغيّبه عن جلسات انتخاب رئيس جديد للجمعية الوطنية الأيرلندية (بمنزلة البرلمان) إلى حين إعلان الحكومة البريطانية تعديل البروتوكول الخاص بأيرلندا، فهو في عرف هذا الحزب تخلّى عن الوحدويين الأيرلنديين وفصلهم عن العرش البريطاني.
في المقابل، أكد حزب "شين فين" القومي والمؤيد لهذا البروتوكول أن أي تعديل فيه سيكون مرفوضا، من منطلق أنه سوف يحدث تمييزا بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، وهو ما يعارضه الحزب القومي الذي يرى في الشقين أرضا واحدا ستتوحد إن عاجلا أم آجلا.
أما الطرف الرابع فهو الولايات المتحدة التي تعدّ الراعية لاتفاق السلام أو "اتفاق الجمعة العظيمة" بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، وقد استدعى تدخلا مباشرا من الرئيس الأميركي جو بايدن الذي دعا لعدم إحداث أي تغيير في البروتوكول الخاص بأيرلندا، بل إن الأميركيين يهددون البريطانيين بتمزيق أوراق مشروع الاتفاق التجاري الحر بين الطرفين لدى إحداث تغيير في وضع أيرلندا.
حرب مدمرة
نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" (Financial Times) عن مسؤولين أوروبيين تحضيرهم الجدّي والفعلي لقائمة من البضائع البريطانية التي يمكن أن تشملها العقوبات الأوروبية إن أصرّت بريطانيا على موقفها.
وتتركز خطة الاتحاد الأوروبي في تكرار ما قامت به مع الولايات المتحدة خلال الحرب التجارية التي اندلعت بين الطرفين في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتقتضي هذه السياسة ضرب المنتجات التي تُنتج في مناطق ذات أهمية سياسية مهمة لترامب للضغط عليه.
ويريد الاتحاد الأوروبي تكرار الفكرة نفسها مع البريطانيين بفرض ضرائب مرتفعة على سمك السلمون القادم من أسكتلندا، ويستورد الأوروبيون نحو 400 مليون دولار من هذا السمك سنويا، وإذا تضررت مصالح الصيادين الأسكتلنديين فهذا سيشكل ضغطا كبيرا على الحكومة البريطانية.
كذلك قد يتجه الأوروبيون إلى فرض ضرائب عالية على المنتجات التي تُنتج في مناطق تعرف بالجدار الأحمر وهي مناطق صناعية كانت دائما معقلا لحزب العمال قبل أن تغيّر توجهها وتصوّت للمحافظين، وإذا تضررت مصالح هذه المناطق فهذا يعني خسارة المحافظين لهذه المناطق.
وأظهرت دراسة لجامعة الاقتصاد في لندن أن "البريكست" تسبّب في ارتفاع أسعار المواد المستوردة في الاتحاد الأوروبي بنسبة 6% خلال عامي 2020 و2022، وعند الدخول في حرب تجارية قد ترتفع هذه النسبة إلى 35%.
وبالنظر إلى أزمة التضخم التي تعاني منها المملكة المتحدة فإن آخر شيء قد يريده جونسون هو ارتفاع جديد في أسعار المواد المستوردة من الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع زعيم مجلس العموم جاكوب ريس موج إلى وصف أي حرب تجارية بين الطرفين بأنها ستكون "ضربة مدمرة للطرفين".